مخاطر السلام الغائب

عشنا في الأيام الأخيرة حادثين لا رابط بينهما, ولكنهما يكشفان عن مخاطر عديدة علي إقليم الشرق الأوسط, الأول هو مقتل دي ميللو, ممثل الأمم المتحدة في العراق, الذي راح ضحية الاعتداء علي بعثة الأمم المتحدة في بغداد في انفجار مهول, أما الثاني فحادث القدس الذي قتل فيه عشرون إسرائيليا, وأكثر من مائة جريح, وما أعقبه من إقدام إسرائيل علي اغتيال إسماعيل أبو شنب, القيادي البارز في حركة حماس الفلسطينية.
لقد كشف الحادث الأول, الذي جري في العراق عن أن هناك أيادي تخطط وتعمل ضد وجود الأمم المتحدة في العراق, والهدف هو إطالة أمد الاحتلال الأمريكي, وجعله المحور الوحيد الذي تلتقي عنده كل الأطراف, باعتباره الباب الذهبي لاستقرار العراق وعودة الأمن والسلام إلي ربوعه, في تغييب واضح لدور الأمم المتحدة, التي يجب أن تكون الوحيدة المنوطة بعودة العراق إلي الحظيرة الدولية دون غيرها.
أما الحادث الثاني في فلسطين, فيشير إلي أن هناك انتهاكا متعمدا للهدنة الفلسطينية ـ الإسرائيلية يهدف إلي تفجير الموقف بكامله, ويعيدنا إلي دوامة العنف والعنف المضاد, وفي اعتقادنا أن من ارتكب مثل هذه الحوادث كان قد تعمد إرسال رسائل مباشرة إلي عدة أطراف, محلية وإقليمية وعالمية, ليخلط كل الأوراق ويضعنا أمام صورة قاتمة وغامضة.
فحادث العراق, يشير إلي أن القوي صاحبة المصلحة في استمرار تردي الأوضاع هناك, سواء أكانت قوة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني, أم النظام السابق, راحت ترسل إشارات إلي بعضها البعض, ففلول النظام السابق, تقول في هـذه الإشارات أو الحوادث لقادة الاحتلال الأمريكي, إنكم لن تحصلوا علي الغنيمة وحدكم, إذا أردتم استكمال سياستكم في العراق, فعليكم الانتباه إلي ضرورة التفاوض مع القوة السابقة, وإذا لم يكن تفاوضا, ففي الحد الأدني اتركوا لها شيئا من الغنيمة, ونعتقد الآن أن البعثيين يستخدمون السلاح الذي تحت أيديهم لزعزعة مكانة الأمريكيين, ويقومون بالأسلوب الذي يعرفونه حق المعرفة, وهو أنهم يقولون للأمريكيين, إذا أردتم إنقاذ أنفسكم من الورطة الراهنة, فيمكن أن نكون نحن هذا المخلب, الذي قد يخرجكم منها, وهذا التفكير بائس لأن الأضرار هنا لن تقع علي الأمريكيين, بل علي الشعب العراقي, وهو الأضعف في المعركة.
لكن السياسة الأمريكية في العراق, أدت إلي خسارة الأمريكيين كل الرهانات, التي راهنوا عليها من قبل, فقد كان معروفا أن الانتصار الأمريكي في العراق, لن يكون عسكريا فحسب, بل كان رهان الأمريكيين علي أن وجودهم في العراق سيكون لإحداث تغيير كبير فيه, وإعادة تأهيله ودمجه في الاقتصاد العالمي, وتقديمه نموذجا, بشقيه الاقتصادي والسياسي للشرق الأوسط, ولكن ما حدث هناك إشار إلي فشل أمريكي كبير, فقد تفجرت الأوضاع, ولم تعد في المنطقة ساحة واحدة للاضطراب والفوضي فقط بل ساحات, يجري هـذا في فلسطين والعراق, إضافة إلي اضطرابات حرب الإرهاب القائمة في أفغانستان.
لقد قلبت هـذه الأخطاء السياسية الأمريكية أوضاع الشرق الأوسط, رأسا علي عقب, وخلفت جروحا وندوبا, وتركت تأثيرات وتداعيات سوف تظهر تباعا, وإذا كان الموقف في العراق غير واضح الاتجاه, فإن الموقف في فلسطين أكثر وضوحا, فسوف تضاف خريطة الطريق ونتائج قمتي شرم الشيخ والعقبة إلي قائمة طويلة من الخسائر الإقليمية.
وإذا جاز لنا أن نرصد حصاد الخاسرين من ضياع السلام الإقليمي من قلب الشرق الأوسط, فإن الذي سوف يدفع الثمن الأكبر ليس الفلسطينيون والعراقيون وحدهم, ولكن كل العرب وشعوب المنطقة, ولن تتوقف معادلة العنف والعنف المضاد, وسيصبح الخاسرون كثيرين, وتأتي في مقدمتهم القوة المهيمنة الآن, أي الأمريكيين, ولعل خسائرهم هذه المرة سوف تكون فادحة, فهم لن يخسروا حكومات صديقة أو معتدلة فقط, بل سوف يخسرون شعوبا, أصبحت تراهم عدوانيين, وأن العداء في السياسة الأمريكية, تجاه شعوبنا العربية, أصبح واضحا ومباشرا.
من ناحية أخري ستكون إسرائيل, الشريك الإقليمي الاستراتيجي للأمريكيين في الشرق الأوسط, الخاسر الثاني أيضا, فسوف تخسر الرهان الكبير الذي دخلته منذ أكثر من ربع قرن, للتعايش سلميا مع شعوب الشرق الأوسط, ويمكن أن تفقد فرصتها الذهبية التي أتاحتها لها شعوب المنطقة, لكي تجعل وجودها غير الشرعي شرعيا, وذلك بالشرعية التي اكتسبتها بحكم القبول العربي العام لها, ويبدو أنها تكرر الأخطاء التاريخية لليهود, فإسرائيل سوف تخسر هذا القبول داخل الشرق الأوسط, ولن تعيده لها أي قوة عالمية مهما امتلكت من هيمنة, لكن قائمة الخاسرين سوف تضم الأوروبيين أيضا, باعتبارهم الشركاء الأكبر سياسيا واقتصاديا لإقليمنا, فسوف يعانون من مخاطر عديدة, كما أن قضية الحرب علي الإرهاب سوف تخسرها قوي الاعتدال, بعد اهتزاز السلام الذي, كان ولايزال, الطريق الوحيد لتجفيف منابع الإرهاب.
ولكن مهما يكن من خسارة القوي الأخري, فإن أكثر الخاسرين هم الشعوب العربية, التي سوف تكون أكثر تضررا, لأنها الطرف الذي سوف تدور الحرب علي أرضه, كما أنها الطرف الأضعف, فنحن العرب أمام مواقف خطيرة, تهدد المستقبل العربي كله, فكل قضايا السلام الإقليمي, في محيطنا العربي, مهددة ليس بالتوقف فقط, بل بالانهيار, إذا لم نتخل عن حالة الانتظار التي نعيشها, وندخل في معركة السلام, باعتبارها قضية حياة أو موت, فاقتصادنا العربي متدهور وضعيف للغاية, ولا يحتمل معركة عسكرية أيا كانت! كما أن الظروف الدولية والعالمية, لا تسير في صالحنا, والسلام لن يعطيه لنا المجتمع الدولي, أو أمريكا كهدية, ولكن بعد مساومات ومقايضة جادة.
فقد آن أوان التفاوض السياسي الجدي, القائم علي مشاركة كل قوي المجتمع, أي تغيير طريقة التفاوض الحالية, فليس هناك فريق يتفاوض, وآخر يترصد بالمتفاوضين, لكشفهم وتعريتهم أمام المجتمع, وإلا ظهر المتفاوضون وكأنهم فدائيون أو انتحاريون, نيابة عن غيرهم من فئات المجتمع, فالبعض منا يتفاوض وكأنه تحت تهديد السلاح, فيبحث عن الفشل, حتي لا يلام, البعض يتفاوض وكأنه يسد خانة, أما الآخرون فيتفاوضون للإغراء, والحصول علي المزايا.
لكن يجب أن نفهم أنه لا مستقبل للمنطقة في ظل الصراع, وأن الذي سوف يدفع أكثر, ويظلم, ويتحمل تبعات الصراع, هو الضعيف, والعالم العربي الآن هو الأضعف, ولن يجدي معه سلاح المنظمات, لأن ذلك السلاح قد يدفع المنطقة إلي الانهيار وإذا كنا نعلي من شأن المقاومة فهي المقاومة السياسية لتغيير الواقع العربي المظلم حاليا.
وهنا يجب أن نقف بوضوح ضد الإرهاب, ونبحث عن السلام الإقليمي, ولأن السلام والهدنة هما في الأساس من مصلحتنا, فمتي نستيقظ قبل فوات الآوان, وانهيار أوضاعنا الداخلية, وزيادة خسائرنا الاستراتيجية؟!
