د. محمد السيد سعيد.. نموذج.. لأجيال المصريين المبدعين

هزنا الفراق الأليم لزميلنا المفكر المبدع د. محمد السيد سعيد.
أما الرحيل فنحن نعرف أنه راحل وكلنا راحلون.
وأما الغياب فنحن متأكدون من حضوره, فعطاؤه المهني والفكري وأداؤه السياسي والإنساني باق بيننا وبين الأجيال التي يشغلها الشأن العام. فقد كان رحمه الله نموذجا وصاحب تفرد يحكي للمعاصرين والأجيال القادمة قدرة المصريين علي تواصل أجيال المبدعين والمفكرين الوطنيين, وأنها بذرة عطاؤها مستمر وإخصابها دائم في تربة المصريين لا ينفد.. وليست حكرا علي جيل أو زمن.
وسوف يحكي جيلنا للأجيال القادمة أنه كان بيننا نموذج هو د. محمد السيد سعيد.. مفكر من طراز خاص تمتع بالعمق والجمال معا, فكانت أعماله معادلات ضمت تناقضات العصر ولم تقع في تناقضه.
وارتقت كتاباته البحثية بمحتواها ومفردات كلماتها إلي مستوي العلماء الباحثين الكبار في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع.
ولكنها في تفردها وفرط جمالها ترتقي إلي مستوي الكتابة الأدبية, وما يطلقون عليه السهل الممتنع, وهو المستوي الذي لايتحقق إلا للموهوبين والمبدعين أصحاب الطرز الخاصة والأساليب الباقية.
بالقطع ستظل كتاباته أمام الباحثين والكتاب, وخاصة الجدد نموذجا يحتذي به في أساليب العمل والتفكير والتعبير.
لقد كان الفقيد الكبير ذا رأي وبصيرة معا, كان عف اللسان والكلمة, لم ينزلق إلي تعبيرات وأساليب العمل الممجوجة التي يعج بها الآن شارعنا السياسي.
لقد عرفته طويلا.. واتفقت واختلفت معه.. ولكني احترمته وزاد تقديري له مع مضي الوقت. فقد تعرض لأحداث كثيرة شخصية مؤلمة ولكنه ولطبيعة شخصيته المتزنة والمركبة لم يزايد أو يتاجر بها, بل علي العكس فقد أكسبته قدرات جديدة وملكات متعددة للممارسة العامة وأبرزها إخلاصه لفكرة حقوق الإنسان.. فترك أعمالا وكتابات خالدة.
*****
لم يمهله المرض اللعين وهو في سنوات النضج وعمق الرؤية لاستكمال مساره الذي كانت المصرية أبرز سماته.. حاول أن ينقيها من أي شوائب قد تطرأ عليها.. كانت تملأ عليه حياته.. لم تستطع أن تهزها في داخله سنوات التعليم أو العمل في أمريكا.. فكان يعود سريعا لاستكمال ما سكنه.. وهو مساعدة المصريين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية لممارسة دورهم التاريخي..
حتي الروح القومية وغريزة الانتماء التي كانت جزءا من مكوناته الفكرية الصلبة كانت الروح المصرية تسبقهاوتبرز كعلامة تفرد في محمد السيد سعيد, نراها تسبق كل الانتماءات داخله بل وملأت عليه حياته. فكان أبرز المتحدثين والناطقين بما يحس به المصريون في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة.
كان بحكم الانتماء السياسي يؤمن بأيديولوجية اليسار لنزعتها الإنسانية, ويوظفها للدفاع عن الفقراء والمحتاجين والبسطاء, ولكنها لم تحكم أبحاثه الاقتصادية والسياسية بل علي العكس تمسك في نقاشاته وحواراته وكتاباته بالموضوعية والنزاهة والعلم بما يفيد الجميع. وتلك سمة العلماء الذين يبحثون ويريدون أن يعرفوا الحقيقة, ويشخصوا جوهرها فتتواري الأيدلوجيات ليبرز العلم والإنتاج النقي الذي يشخص الحاضر ويفيده ويبقي للمستقبل.
*****
نحن في الأهرام ومنذ أن أصابه المرض اللعين وقلوبنا وعقولنا مشدودة إلي زميلنا الراحل.. نتابعه.. ونحس بآلامه.. ونشاركه الألم. ولكن يهزنا الرحيل والفراق الإنساني, ولأن صفاء الإنسان ونقاء سريرته وحبه للناس كانت سماته البارزة فإننا نفتقد كل ذلك.
لقد كان لوقع الرحيل مفاجأة رغم أننا كنا نتوقعه, فالمرض كان يزحف ولا يخفي شراسته.. وتعجز إرادة محبيه وإمكانات العلم عن وقفه, وكنا لا نملك له إلا الدعاء بأن يواجه تلك الحقيقة اللعينة بنفس القوة والجدية التي واجه بها حقيقة الحياة التي نعيشها.
رحم الله الفقيد وجزاه خيرا علي ما قدمه لبلده ولمواطنيه.
Osaraya@ahram.org.eg
