مقالات الأهرام اليومى

الموقف العربي من المسألة الإيرانية ضغوط اللحظة الراهنة

لايمكن أن تتجاهل القراءات المختلفة للرسالة التي وجهها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عيد النيروز للقيادة والشعب في إيران ـ حقيقة لاخلاف عليها في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية‏,‏ إذ تأتي هذه الرسالة بعد ثلاثين عاما من القطيعة والتوتر بين البلدين‏,‏ وهي فترة طويلة سمحت بالكثير من التراكمات السلبية وفقدان الثقة بينهما‏,‏ وهذه التراكمات أكبر من أن تختفي فجأة بوصول إدارة جديدة للبيت الأبيض تريد أن تنهج نهجا جديدا في ظل أزمة معقدة‏,‏ فلقد تخلي الخطاب الأمريكي عن وصف إيران بما كان معتادا من قبل في الخطاب السياسي السابق‏,‏ ولكنه وضع شروطا لبدء ما سماه بعهد جديد من الحوار النزيه القائم علي الاحترام المتبادل.

وسواء كانت رسالة أوباما في عيد النيروز الفارسي للدولة الدينية تعبر عن نيات جديدة أو تمهد المجال لنيات أقدم عهدا من الإدارة الحالية‏,‏ فإن ما يعنينا في العالم العربي هو تداعيات هذه المحاولات أو المناورات الأمريكية والإيرانية‏,‏ وتأثيراتها علي مجمل الأوضاع في العالم العربي الذي بات مسرحا لتحركات إيرانية مشبوهة ومرفوضة‏,‏ زادت حدتها في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق حيث كانت إيران هي الرابح الأكبر مما حدث في العراق‏.‏

وأهمية ما يجري بين الولايات المتحدة وإيران تأزما أو انفراجا بالنسبة للعالم العربي تأتي من حقيقة أن الملفات العالقة بين الدولتين ترتبط جميعها بشكل مباشر بالأمن القومي العربي بدءا من الملف النووي الإيراني ومرورا بالملفات الفلسطيني واللبناني والعراقي وحتي الأوضاع في أفغانستان‏..‏ وهذا التشابك بين العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية‏,‏ ومتطلبات الأمن القومي العربي يفرض وجودا عربيا حقيقيا في أي محاولة لتطبيع العلاقات بين الدولتين‏,‏ سواء رفضت إحداهما أو كلتاهما أو قبلت ذلك‏.‏ فليس مقبولا أن يدفع العرب ثمن العداوة بينهما حين تنشأ‏,‏ أو كلفة الصداقة حين تأتي‏.‏

لا أحد في العالم العربي يريد استمرار التوتر في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة‏,‏ بل إن الدول العربية الكبري رفضت التهديدات العسكرية الأمريكية بسبب الملف النووي الإيراني ومازالت تصر علي بذل المزيد من المساعي للتوصل لتسوية سلمية للأزمة الراهنة‏.‏ ولكن إيران تسعي بكل جهد ممكن لتغييب الوجود العربي في حوارها مع الولايات المتحدة وتحييد القوة العربية من أن يكون لها وجود فاعل في ترتيب الأوضاع بالمنطقة‏.‏ وهذا هو السبب الرئيسي في العداء الإيراني الخاص لمصر وللرئيس مبارك‏.‏ فالتحريض الإيراني ضد مصر ورئيسها تجاوز كل الحدود‏.‏

إن حقيقة موقف إيران من الرئيس مبارك لاتخفي علي أحد في المنطقة العربية‏.‏ فهي تراه قوة قادرة علي الحفاظ علي عناصر الاستقرار في العالم العربي الذي تسعي إيران بكل وسيلة لزعزعته حتي تتمكن من الانفراد بالمنطقة بأسرها‏,‏ فمبارك بالنسبة لها عقبة تحول دون تحقيق حلمها بالهيمنة الفارسية علي المنطقة‏,‏ وقد حاولت إيران ومازالت تحاول تقويض الجهود المصرية لبناء موقف عربي قادر علي تحجيم النفوذ الإيراني‏,‏ وإفشال محاولات اختراق الصف العربي‏.‏ وهي تعلم جيدا أنه لاسبيل أمامها لإقامة علاقات جيدة مع العالم العربي إلا بالتوافق مع المبادئ المصرية المعلنة والتحول من نظام ثوري إلي دولة والتخلي عن أحلامها الإمبراطورية ووقف تدخلاتها في الشئون الداخلية للعرب‏,‏ والكف عن إثارة القلاقل والاضطرابات في المنطقة‏.‏ ولكن هذا السبيل تكتنفه صعوبات كثيرة في ظل الأوضاع الإيرانية الحالية‏.‏ ومن هنا فإن مصر ترفض أي محاولة للحوار مع إيران‏.‏ ولن تنخدع مصر وكثير من العرب بما يعلنه النظام الإيراني من عداء لإسرائيل تريد به الزج بالعرب نحو المواجهة العسكرية مع إسرائيل‏,‏ والدخول في أزمات حادة مع الولايات المتحدة وأوروبا‏,‏ بينما هي تراقب المشهد عن كثب‏ تمهيدا للانقضاض علي ما يتبقي من تلك المواجهة‏.‏ ولعل أقرب تجليات الموقف الإيراني هو ما حدث في غزة حينما دفعت بحماس نحو التطرف في المواقف فألحقت بالقطاع وأهله نكبة مروعة بينما اكتفت بالدعاء لهم في المساجد وإعلان الحداد علي الشهداء الذين سقطوا ضحايا العدوان الإسرائيلي‏,‏ وإثارة الغضب ضد مصر والرئيس مبارك الذي ساند بكل قوة الفلسطينيين قبل وفي أثناء وبعد الغزو‏,‏ ومازالت إيران حتي اليوم تبحث عمن يشتري موقفها في فلسطين وتعرض ـ في سخاء ـ الدم الفلسطيني ثمنا في المساومة من أجل مصالحها‏.‏

وهو موقف يجب ألا تتسامح فيه مصر مع إيران ومن ساند توجهاتها وقام بتجييش العداء ضد مصر وأهلها وقيادتها‏..‏ من العرب الذين تعاونوا مع إيران لتحقيق هذا الهدف العدواني المخزي ضدنا‏,‏ وضد عروبتنا وضد قضيتنا الفلسطينية لخدمة أغراض خبيثة ودنيئة‏..‏ وحاولوا إخفاء جريمتهم ضد قضيتنا وعروبتنا بالتحمس للقضية الفلسطينية‏..‏ وأمامهم جميعا الفرصة مواتية في قمة الدوحة التي يجب أن تكون عربية وليست إيرانية ليعتذروا عن جريمتهم البشعة‏,‏ ويقدموا للعروبة ولمصر واجبات الاحترام‏.‏

‏……………………………………………………..‏

وبرغم كل الشواهد علي حقيقة الموقف الإيراني فإن بعض العرب تستبد بهم الأوهام والعواطف فيضعوننا في موقف المفاضلة بين إسرائيل وإيران‏,‏ وكأنه قدر علينا أن نختار عدوا واحدا منهما‏.‏ والحقيقة أن كليهما عدو بقدر ما يهدد الأمن والاستقرار‏,‏ ولن يكون العداء بينهما مبررا لتفضيل أي منهما علي الآخر‏,‏ مادام كل منهما يمارس العدوان والتآمر علي المصالح العربية‏.‏

لقد حمل التاريخ من الطرفين لنا عداء‏..‏ نعم ستون عاما من العداء تفصل العرب عن إسرائيل‏,‏ وسنوات أطول من العداء والاستعلاء فصلت إيران عن العرب قبل الإسلام وبعده‏,‏ وجاء النظام الثوري الإيراني ليبعث العداء من بطون التاريخ‏,‏ ويهدد ماكان قد تصالح العرب والفرس عليه من قبل‏,‏ ولم يترك هذا النظام فرصة في الواقع المعيش‏,‏ أو كامنة في بطون التاريخ للتغلغل في المنطقة العربية وتجديد حلم فارسي قديم‏,‏ سكب النار علي كل أزمة وحاول تقويض كل أمل في التسوية السلمية لها‏,‏ وبعث فتنة دينية كانت القرون قد طوتها فأحياها لكي يجدد بها الفرقة والانقسام‏,‏ وينفذ منها إلي تحقيق مشروعه القومي الفارسي‏.‏

ويبدو لي مثل كثيرين غيري أن المشروع الفارسي الذي ينطلق الآن من عباءات الملالي أكبر كثيرا من قدرات إيران ولكنها تحاول‏,‏ وفي محاولاتها أصبحت مصدر تهديد للعرب ومصالحهم وأوطانهم‏..‏ لا فرق في هذه التهديدات بين دولة تقع علي الحدود مع إيران‏,‏ ودولة تفصلها عنها آلاف الأميال‏,‏ فقد وصل التهديد الإيراني إلي حد القطيعة مع المغرب وهي ابعد الدول العربية عن الأراضي الإيرانية‏,‏ وطال الخطر والتهديد العرب جميعا‏..‏ صحيح أن بين العرب من يغتر ـ في بلاهة أو بمصالح عرضية مؤقتة ـ بمزاعم الجار الكاره لأعدائنا فانطلقوا يرددون تلك المزاعم بوعي وبغير وعي‏,.‏ ولكن التهديد الإيراني لمصالح العرب أمة ودولا أصبح أوضح من أن تخطئه عين قادرة علي شيء من الرؤية‏.‏

ولم تعد قضيتنا مع إيران أن تبدأ هي حوارا مع الولايات المتحدة ينهي العداء بينهما‏.‏ وإنما قضيتنا اليوم هي أن خطرا وشيكا بات يهددنا جميعا‏,‏ ولامفر من حوار عربي واضح وصريح وموضوعي حول كيفية التعامل مع المساعي الإيرانية‏,‏ التي تعبر عن نفسها في معظم أقطار العرب توترا وفتنة وانقساما‏..‏ هذا الحوار العربي يبدو ضرورة ملحة من جوانب عديدة‏.‏ أولها ضرورة التوافق علي الخطر الذي تمثله إيران اليوم علي المصالح العربية وفق تشخيص موضوعي يستند إلي الحقائق الدامغة المتوافرة لدي كل عاصمة عربية خاصة لدي كل دول الخليج العربي والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين بل وصولا إلي مصر والآن في دول المغرب العربي‏

وكذلك أهمية أن يتفق العرب علي الخطوط العريضة لسياسة عربية‏,‏ مشتركة تجاه إيران‏,‏ وليس من الضروري أن يكون هناك اتفاق كامل في كل شيء‏,‏ ولكن علي الأقل الأسس العامة التي تحكم الموقف العربي‏.‏ ومما يحتم الحوار العربي أيضا بشأن إيران أن الأخيرة لن تجد ما يدعو إلي حوار جاد وبناء مع العرب مادامت بعض العواصم العربية قد ظلت مفتوحة لها وظلت بعض الأصوات العربية تدافع عنها‏..‏إن إيران اليوم مثل إسرائيل تفضل التعامل مع وضع عربي منقسم ومشتت‏..‏

وهذا التشتت هو الذي يتيح لها أن تدخل أرض العرب من غير أبوابها ودون كلفة حقيقية‏.‏ وهو أيضا الذي سمح لها بالتسلل إلي السودان ولبنان وفلسطين والصومال‏.‏

هذا الحوار العربي الصريح والموضوعي‏,‏ أصبح مرهونا بتوقيته الصحيح‏.‏ فليس هناك المزيد من الوقت في انتظار ما سوف تفعله إيران‏.‏ ويتعين علي العرب ألا يغتروا بتلك الزيارات الدبلوماسية التي يقوم بها المسئولون الإيرانيون لبعض العواصم العربية‏,‏ حيث تردد إيران كلاما تناقضه أفعالها في كل موقف‏.‏ فأخطر ما يواجهه العرب اليوم هو انتظار ما سوف تسفر عنه التجاذبات الأمريكية ـ الإيرانية الأخيرة مهما بلغت الصعوبات التي تعترض إنهاء العداء الأمريكي ـ الإيراني‏.‏ ومرة ثانية نحن لا نريد تصاعدا في التوتر بين الدولتين لأننا سوف نتحمل نتائج تصعيده‏,‏ ولكننا لايمكن أيضا أن نقبل أن يتفاوض الطرفان حول ملفات تمثل جوهر الأمن القومي العربي في غيبة منا‏.‏

……………………………………………………..‏

وقد تعترض الحوار العربي حول المسألة الإيرانية‏,‏ بعض الصعوبات‏,‏ ولكنها أقل عبئا من تلك التي تفرضها علينا المؤامرات الإيرانية إذا تغاضت عنها الولايات المتحدة ثمنا لمصالحها هي الأخري‏,‏ ولاشك أن بدء الحوار العربي حول المسألة الإيرانية سوف يلقي بتأثيرات مهمة علي أي حوار قد ينشأ بين الولايات المتحدة وإيران‏,‏ وسيكون بمثابة إعلان عن أن العرب لن يكونوا موضوعا للمفاوضات بين الطرفين وهم غائبون‏..‏ وهناك إشارات مؤكدة تقول إن إيران تريد أن تخرج من التفاوض مع الولايات المتحدة بترتيبات توفر لها نفوذا قويا في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة

وفي منطقة الخليج بصفة خاصة‏,‏ فهل تستطيع القمة العربية في الدوحة أن ترد علي رغبات إيران وعدوانيتها ضد العرب أم أن إيران تعد العدة للعرب‏,‏ لتركب ظهورهم علي أكتاف قمة الدوحة‏..‏ كما استغلت قطر إبان حرب إسرائيل البشعة ضد غزة؟‏!‏

قد يري البعض أن الولايات المتحدة لن تقبل بهذه الآمال الإيرانية لأنها سوف تكون علي حساب العرب ومصالح الولايات المتحدة نفسها‏.‏ ولكن ذلك ليس مبررا للانتظار والبقاء في مقاعد المتفرجين حتي يعلن أوباما رفضه لتلك المطالب الإيرانية‏.‏ فقبل نحو مائة عام جلس الإنجليز والفرنسيون في معاهدة سايكس بيكو لتقسيم أرض العرب بينهما‏,‏ وينبغي ألا يعيد التاريخ نفسه‏,‏ فغياب الحوار العربي والموقف العربي المشترك يغري الأطراف جميعا‏:‏ إيران والولايات المتحدة وأوروبا‏,‏ بتجاوز العرب جميعا فيما سوف ينتهي إليه الحوار بينهم‏.‏

………………………………………………………‏

وربما تتحمل مصر والسعودية العبء الأكبر في صياغة موقف عربي موحد في مواجهة الخطر الإيراني‏,‏ ومن تجندهم إيران من العرب لخدمة مصالحها وعدوانيتها ضد العرب وقضاياهم‏,‏ وممارسة الضغوط علي واشنطن وأوروبا من أجل الدفع بالمصالح العربية علي مائدة أي حوار أو تفاوض بين إيران والغرب‏.‏ ولو أن سوريا أفاقت لحقيقة النيات الإيرانية وأدركت أن العرب مهما تكن الخلافات بينهم‏,‏ أرفق بسوريا وأحرص علي مصالحها من إيران‏,‏ فإن جهدا كثيرا ووقتا طويلا يمكن توفيره في مساعي بناء موقف عربي موحد من إيران‏.‏ ووقتها لن تؤثر في الموقف العربي ألاعيب الصغار من الحركات الثورية والدينية وبعض الدول‏.‏

وعلي الجانب الآخر فإن الولايات المتحدة‏,‏ مع إدارتها الجديدة‏,‏ تبحث بجدية عن مخرج من أزمات كثيرة ورثتها عن الإدارة السابقة‏.‏ وهي فيما يبدو وجدت ضالتها في الحوار مع الأطراف التي ناصبتها الإدارة السابقة العداء الشديد‏.‏ ربما كان خيار الحوار مع إيران وغيرها من أطراف الأزمات الراهنة في العالم خيارا براجماتيا‏,‏ يوفر لإدارة أوباما الوقت الكافي لبلورة موقف‏,‏ أو للظهور محليا وعالميا بمظهر العقلانية الرشيدة في مقابل التهور والاندفاع الذي ميز الإدارة السابقة‏.‏

ومن حق الرئيس أوباما أن يرسم لنفسه ملامح صورة يبرئ بها الولايات المتحدة من صورة سلفه التي أعادت إلي الأذهان صورة المستعمر العنصري‏.‏ ولذلك يبدو حريصا علي التهدئة التي توفرها دعوات الحوار‏,‏ ولكن الحوار ليس خيارا عمليا في كل الحالات‏,‏ فقد تدفع دعوات الحوار الأطراف الأخري نحو المزيد من التشدد‏,‏ وتحقيق أكبر قدر من المكاسب خاصة في الظروف التي تمر بها إدارة أوباما‏,‏ ولذلك لم يكن هناك من تفسير لرد المرشد الأعلي للثورة الإيرانية علي رسالة أوباما في عيد النيروز إلا أن إيران تري في الموقف الأمريكي ضعفا يدفع بمطالبها خطوات إلي الأمام في ظل الانقسام العربي في الفناء المجاور لها‏.‏

وسوف ترتكب الولايات المتحدة حماقة كبيرة إن هي أخفت علي الجانب العربي حقيقة ما يجري خلف أبواب المفاوضات بشأن إيران في واشنطن وأوروبا‏.‏ فقد تسارعت زيارات المسئولين الأمريكيين للمنطقة في وقت كانت فيه الأحداث تتسارع‏,‏ والتوقعات تتزايد بشأن توجيه ضربة عسكرية لإيران‏..‏ ولقد سعت مصر حثيثا لإقناع الغرب بأهمية معرفة ما يجري بشأن إيران في الوقت الذي تسعي فيه بكل جهد لبناء موقف عربي قوي وواضح من المسألة الإيرانية‏,‏ بصرف النظر عن نيات واشنطن أو أوروبا‏.‏ والذي لانريده هو أن يبدأ اوباما أعماله في ملفات الشرق الأوسط بخطأ استراتيجي سوف يضر بمصالح الولايات المتحدة والعرب معا ويدفع الجميع نحو المزيد من التشدد والتطرف في المواقف‏.‏

osaraya@ahram.org.eg

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى