مقالات الأهرام اليومى

قمة الدوحة بلاغة الغياب وحضور الرسالة

انتهت قمة العرب في يوم افتتاحها ولم تنته بأكثر مما أحاط بها من توقعات‏.‏ فلم يذهب أكثر المتفائلين بها إلي أبعد مما انتهت إليه‏,‏ غاب الرئيس مبارك عن القمة وكان غيابه السبب الرئيسي في الهبوط بمستوي التوقعات بشأن ما سوف تنتهي إليه قمة العرب في الدوحة‏,‏ لم تفلح أي محاولة لإنقاذ القمة من نتائجها التي يراها الشارع العربي اليوم هزيلة ودون مستوي التحديات التي تواجه العرب داخليا وإقليميا وعالميا‏,‏ فالأحداث التي توالت في المحيط العربي كانت تذكر العرب علي الدوام بأن الفرقة والانقسام آفة ما يحل بالمنطقة من أزمات وكوارث‏,‏ وهي التي شجعت غيرهم علي اختراق مصالحهم العليا والاستخفاف بقدراتهم‏,‏ ولكن كثيرا من العرب اعتادوا أن يواجهوا الأزمات بأقوال تناقضها الأفعال‏,‏ أقوال تلقي في احتفاليات ومهرجانات تسعي نحو تزييف الوعي العربي‏,‏ وأفعال تتخفي‏,‏ بل مؤامرات تحاك في الخفاء لضرب كل جهد يسعي نحو توحيد كلمة العرب‏.‏

لقد كان غياب الرئيس مبارك قوة فرضت حضور رؤيته وقراءته للواقع العربي وللتحديات التي تنذر العرب بالكثير من الأخطار‏,‏ حمل ذلك الغياب رسالة لايغيب معناها اليوم ـ بعد انتهاء القمة ـ عن العقل العربي الرسمي والشعبي‏.‏

فالقمم ليست آلية فاعلة في تحقيق المصالحة العربية‏,‏ قد تكون آلية لعرض العناق والمصافحات بين قادة العرب ـ وما أكثر ما فعلوا ـ علي شاشات التليفزيون بينما تظل الخلافات عميقة وكامنة‏,‏ لم تعد مشكلات العرب تحتمل مصالحات علي السطح وعداوات في العمق‏,‏ فالمشكلات التي تواجه العرب اليوم تهدد في العمق الأمن القومي العربي والأمن القومي لكثير من الدول العربية‏,‏ ولم يعد مقبولا أن تترك تلك المشكلات للعبث السياسي الذي يمارسه بعض العرب سرا وعلانية وهنا تصبح المكاشفة والمصارحة والمواجهة الحقيقية ضرورة‏,‏ ولكن بعض العرب لايريدون المكاشفة والمصارحة لأنها تدينهم وتفضح خطابهم الزائف وتضعهم في حجمهم أمام الرأي العام العربي‏.‏

وقد جاء خطاب الرئيس مبارك للقمة قاطعا بشأن آليات تحقيق المصالحة العربية‏,‏ ومعبرا عن آمال العرب في أن تخرج المصالحات عن إطارها الشكلي الهش الذي لازمها طويلا‏.‏

لم تكن رسالة مصر موجهة لدولة بعينها أو للقمة فقط ولكن كانت للشعوب العربية كلها ـ وكان هدفها هو وقف التدهور في الوضع العربي محددا في نقاط خمس ـ للاجابة عن السؤال الذي يطرح نفسه‏,‏ وهو‏:‏ كيف يمكن تحقيق هذا الهدف مستفيدا من التطورات والخبرات المتراكمة لدي مصر ورئيسها من أحداث العام الماضي الجسيمة وما قبلها‏,‏ والتحديات المستقبلية التي تنتظرها منطقتنا وشعوبنا؟ وجاءت الإجابة منطقية وواقعية‏,‏ بل وبلغت قمة الترفع لدي مصر لأنها لا تريد شيئا لنفسها أو تبحث عن تبحث عن مكانة لها‏,‏ فهي في الموقع الأرفع والأكثر دورا ومكانة ولا يمكن المزايدة عليه ـ ونحن لا نريد أن نضيف ـ فهناك الكثير الذي يعرفه الجميع‏,‏ ولكن مصر تعمل لمصلحة الأمة وهويتها ومصلحة الشعب الفلسطيني‏,‏ وذلك بتجرد كامل وليس مثل الآخرين‏!.‏

لقد وضعت رسالة الرئيس مبارك العرب جميعا أمام الحقائق برمتها كيف يصنعون مصالحة حقيقية تحول دون تكرار المشهد القبيح الذي رأيناه أخيرا حين شن البعض منهم حربا كلامية ضارية ضد مصر‏,‏ في الوقت الذي كانت هي السند الوحيد للفلسطينيين في مواجهة حرب وحشية شنتها إسرائيل‏.‏

لقد دعت مصر من قبل إلي قمم مصغرة تكفل تكثيف التشاور بين القادة‏,‏ وهي آلية أكثر فاعلية في حل المشكلات القائمة‏,‏ وهي كذلك آلية قادرة علي الحيلولة دون أن يتحول الاختلاف العارض إلي خلاف أو خصومة‏,‏ كما قال الرئيس في كلمته للقمة العربية‏.‏ وليس هناك أدني تعارض بين قمم تشاورية مصغرة متكررة وبين القمم العربية الكبري‏,‏ وبوسع القمم العربية المصغرة أن تفعل الكثير ليس فقط في تنقية العلاقات الثنائية بين الدول وإنما أيضا في مواجهة الكثير من الأزمات العربية حين تحتاج تلك الأزمات تحركا سريعا وعملا حقيقيا بدلا من البيانات الاحتفالية التي تصدر عن القمم الكبري‏.‏

وفي الوقت الذي لاتزال فيه الخلافات العربية تعصف بكل جهد عربي مشترك لتوحيد الجهود في اتجاه المصالح العربية العليا جاء البيان الختامي لقمة الدوحة ليستخدم لغة معتادة سبق استخدامها عشرات المرات من قبل من دعم للتضامن العربي وتحقيق المصالحة واحترام القيم العربية والاعتداد باستقلال الدول وسيادتها‏.‏

لقد حدد مبارك خمسة مرتكزات أساسية لتحقيق مصالحة عربية حقيقية هي بالفعل ما نحتاجه علي أرض الواقع إذا ما أردنا تفعيل التضامن والتكامل العربي‏,‏ فلن نحقق تصالحا والبعض منا يريد استثمار حرية التعبير المتاحة والتطور الديمقراطي في بعض الدول للتدخل في شئونها والتطاول غير المقبول عليها‏.‏ ولن نحقق مصالحة ووسائل الإعلام برعاية رسمية تهيل التراب علي كل إنجاز وتدفع العقل العربي بعيدا عن الحقيقة بالتزوير ونشر الأكاذيب‏.‏ ولن نحقق المصالحة والبعض من العرب يفتح لأعداء العرب ثغرات ينفذون منها إلي الجسد العربي ليعيث في أرضهم فسادا‏.‏

إن ما أشار إليه الرئيس مبارك من مرتكزات تحقيق مصالحة عربية حقيقية‏,‏ وما قال به البيان الختامي للقمة العربية‏,‏ يشير إلي أن وقتا طويلا سوف يمر قبل أن تؤتي المصالحات العربية ثمارها دعما وقوة للتحرك العربي في مواجهة العديد من الأزمات‏.‏

لقد فعلت مصر ما عليها للعرب جميعا وللفلسطينيين‏..‏ وبقي أن يستجيب الآخرون ويحترموا أنفسهم‏..‏ قبل أن نطالبهم بأن يصونوا تاريخ أمتنا وحقوق شعوبها‏.‏

osaraya@ahram.org.eg

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى