في انتظار ما لايجيء!

| ما شهدته الساحة السياسية المصرية من تفاعلات صاخبة بين القوي المختلفة كان يمكن أن يؤجل ما تحقق في بلادنا, وأصبح واقعا نلمسه جميعا. فلقد ذهبت المهاترات السياسية بالكثير من الجهد والوقت, وعلت أصواتها فوق أصوات الإنجاز الذي تفرضه الاحتياجات الحقيقية اليومية للمواطن البسيط. وقد أراد البعض لأجندة الصخب السياسي أن تفرض نفسها علي قائمة أولويات العمل الوطني, وأن تحجب بضجيجها إنجازات تتوالي وفق البرنامج الإنتخابي المحكم الذي أعلنه الرئيس حسني مبارك في برنامجه الانتخابي. ففي تفاعلات تعديل بعض أحكام السلطة القضائية كان غبار الأزمة أكبر من المشكلة ذاتها. وقد أظهر أصحاب المشكلة الحقيقيون من القضاة جدية وفهما عميقا للحوار حول التعديلات الأخيرة, فاستجابوا للخطوات التي تم اتخاذها, وكانت استجابتهم درسا بليغا في تفهم حقيقة مايجري في مصر. إلا أن الصخب مازال مستمرا ورافضا استيعاب الدرس. وما حدث مع القضاة تكرر مع الصحافة حين شرعت الدولة في تنفيذ وعد الرئيس بإلغاء عقوبة الحبس في جرائم النشر, حيث سيطرت الانفعالات وساد التشكك في نيات الحكومة دون دليل واضح يبرر هذا الشك. لقد أرادت عصبة الصخب السياسي بهذا الدعم المزعوم, تارة للقضاة وأخري للصحفيين, أن تبدو الحكومة وكأنها في صراع مع هؤلاء وهؤلاء, وكما كانت تعديلات قانون السلطة القضائية نقلة نوعية في الإصلاح القضائي, فإن التعديلات الخاصة بجرائم النشر قد جاءت لتعطي الصحافة دفعة هائلة في الموازنة بين ممارسة حرية التعبير من ناحية, وحقوق المواطنين وحرمة حياتهم الخاصة من ناحية ثانية. فالصحافة ليست شأنا يخص العاملين فيها وحدهم, وليست حكرا عليهم وحدهم, ولكنها حق من حقوق المجتمع, ومساحة للحوار يدعي إليها الجميع يوميا قراء وكتابا. وعلي الصحفيين أن يدركوا جيدا كيف يديرون حوارهم السياسي حول ما يرونه مقيدا لحرية الصحافة في التعديلات الجديدة, وأن يدركوا أيضا حقوق الآخرين, فالصحافة لابد أن تكون أكثر حرصا من غيرها علي حماية الحياة الخاصة للأفراد, ووضع الحدود الفاصلة بين الإغواء المهني والحفاظ علي سمعة وكرامة الآخرين الذين هم في النهاية قراؤها وجمهورها المستهدف الذي تعمل من أجله, وبالطبع فإنه لايمكن للصحفيين القبول بأن تكون حرمة الحياة الخاصة وسمعة المواطن ونزاهته واغتيال شخصيته وعائلته ثمنا للحق في التعبير. فالصحافة منطقة تلتقي عندها أضداد ومتناقضات بحكم تفاعلها مع جميع فئات المجتمع وجماعاته ومصالحه. إننا لم نعرف في أي مجتمع قانونا حظي بالإجماع المطلق, ولو أن مجلس الشعب أقر القوانين التي تنادي بها عصبة الصخب السياسي لاعترضوا وما غاب عن صخبهم صوت واحد, فلقد غدا الصراخ في كل محفل منطقهم, وإثارة الغبار في كل ميدان هدفهم, فهم يضعون أنفسهم أينما تضيء كاميرات التليفزيون, وحيثما ذهب المراسلون الأجانب, بحثا عن شهرة خائبة وافتعالا لمواقف لا وجود لها في أرض يسكنها ثلاثة وسبعون مليون شخص. وكنت أخشي, مثل غيري, أن يعطل هذا الصخب إصلاحات ينتظرها المواطن المصري في التعليم والصحة وأسباب المعيشة, ولكن الحزب الوطني تجاوز خطط قوي الصخب السياسي, التي أرادت أن تشغله بقضاياها, وتستنزف قواه بعيدا عن الإنجازات الحقيقية التي يتطلع إليها جموع المصريين, وهكذا شهدت الأسابيع الأخيرة سلسلة من الإنجازات الحقيقية, التي تمثل في مجموعها رغبة في السير خطوات إلي الأمام وقدرة عليه. | |
ولقد كان الكادر الوظيفي للمعلمين خطوة علي طريق إصلاح التعليم, وتعبيرا عن اهتمام غاب طويلا عن هؤلاء الذين يرتبط بهم كل جهد تنموي. وكان تعديل قانون السلطة القضائية إصلاحا حقيقيا لوضعها, وتمكينا لها من أن تقوم بدورها الحيوي بكفاءة واقتدار. وتكاد الصحافة تتخلص من أغلالها التي كبلت أقلامها, وقد تم إقرار الخطة الاستراتيجية للتعليم العالي, في الوقت الذي بدأت فيه الخطوات الحقيقية لإنجاز أحد أهم المشروعات الكبري في حياة المصريين, وهو مشروع التأمين الصحي. وهذه الخطوات المهمة تعكس عددا من المؤشرات الإيجابية في عمل الحزب الوطني والحكومة, أوجزها فيما يلي: أولا: أن برنامج الرئيس حسني مبارك الانتخابي تتم ترجمته بصورة ملموسة علي أرض الواقع, ولم يكن ـ كما روج البعض ـ وعودا انتخابية سوف تنتهي بنهاية الانتخابات. فهؤلاء لم يدركوا أن قائدا بحجم وتاريخ مبارك لم يكن ليعد بما لايستطيع تنفيذه, وأن هذا البرنامج كان نتاج دراسة حقيقية ومواءمة عملية بين احتياجات المجتمع وإمكاناته. ثانيا: إن المهاترات السياسية ـ علي الرغم من حدتهاـ لم تدفع بالحزب الوطني بعيدا عن أهدافه وخططه التي طورها استجابة لهموم المواطنين, بل إن الحزب بهذه الإنجازات قد تجاوز خطط بعض القوي السياسية التي أرادت أن تشغله بقضاياها, وتستنزف قواه بعيدا عما عقد العزم من أجله في سبيل تنمية حقيقية لجميع قطاعات المجتمع. ثالثا: إن المعارضة السياسية لم تزل علي موقفها الرافض لكل إصلاح يأتي من الحزب الوطني وحكومته, وهو موقف يستند إلي رؤية ضيقة لمشكلات المجتمع وهمومه. ومازالت القراءات الخاطئة لبرنامج الرئيس مستمرة, ومازالت محاولات التصيد, وصرف الأنظار عن القضايا الحقيقية تسعي في كل اتجاه, وإن خفت حدتها لانصراف الناس عنها, ومتابعتهم العمل الجاد الذي يتحقق علي أرض الواقع, ومهما تكن تلك المحاولات, فإن المواطن لم يعد يحتمل الكثير من الصبر علي مشكلاته لمصلحة ذلك الصياح الديمقراطي الذي تمارسه أقلية راغبة أو طامعة في جني ثمار العمل السياسي, مضحية في سبيل ذلك بمصالح القطاعات الأوسع من المصريين. فطوابير المرضي أمام المستشفيات لن يخفف آلامها صياح الديمقراطيين في وسط العاصمة أمام عدسات الفضائيات, ولن تضمد جراحهم صراعات الأحزاب علي الزعامة والرئاسة. ولا يعني ذلك أنني أقف معارضا كل جهد يدفع مسيرتنا الديمقراطية خطوات إلي الأمام, ولكنني فقط أشير إلي أهمية أن تتضافر الجهود من أجل ألا تسقط من الحسابات هموم المصريين ومشكلاتهم بعيدا عن وسط العاصمة وضجيجها الديمقراطي. إن انفعالات الأقلية أصبحت مصدرا داعما لمن يعمل ضد مصر ومصالحها في الخارج, فاستنادا إلي ماكتب في الداخل عن الطالبة آلاء خرجت علينا صحيفة يديعوت أحرونوت بمقال تتناول فيه انتقادات الرئيس مبارك سياسة القمع الإسرائيلية في مواجهة الشعب الفلسطيني, ولم يجد كاتب المقال حجة يدافع بها عن موقف إسرائيل سوي قصة آلاء التي اعتبرها تعبيرا عن ضيق الحكومة المصرية بطالبة كتبت نقدا في امتحان دراسي, فقررت معاقبتها بالرسوب, ونسي الكاتب وصحيفته أن صحف المعارضة المصرية أشد ضراوة من صحف المعارضة في إسرائيل في نقد الحكومة صباحا ومساء, وأن الحكومة التي تتعرض لكل ذلك لا يمكن أن تضيق بموضوع كتبته تلميذة صغيرة في امتحان دراسي. إن خطأ البيروقراطية أصبح خطأ كبار السياسيين.. هكذا صور البعض منا القضية لتروجها وسائل الإعلام الخارجية كحقيقة ثابتة, وجاء تدخل الرئيس حسني مبارك ليصحح خطأ البيروقراطيين, مثلما تدخل من قبل مرات ومرات انحيازا للحقوق التي أنكرها الموظفون في النهايات الطرفية والوسطي من الجهاز الحكومي, وسوف يستمر تدخل الرئيس مابقيت تلك المعايير المتهالكة تحكم عمل الكثيرين في أطراف الدولة. ومازال في برنامج الرئيس الكثير من القضايا والحلول للمشكلات التي نعانيها, ومازلنا ننتظر من الحزب الوطني وحكومته المضي قدما في طريق التنفيذ, ونحن نعلم أن هناك نفوسا مازالت الرغبة تملؤها في إهالة التراب علي كل إنجاز, وتعطيل كل مسعي يضع نهاية لمشكلة. والواضح أن الحزب والحكومة علي وعي تام بذلك, فهما يواصلان الجهود في الطريق الصحيح, وهناك حلول جريئة تقتحم المشكلات المتراكمة وبعض هذه الحلول مازال قيد الدراسة بهدف وضع نهاية حقيقية للمعاناة التي طالت مع المسكنات. أما عصبة الصخب السياسي فإنها مازالت في انتظار تحقيق أوهام تستبد بها, وتزين لها يوما تتولي فيه صياغة الحياة السياسية في مصر, وحشد التأييد لها بين جموع المصريين, ظنا منها أنها تطرح حلولا لشيء, وهو انتظار سوف يمتد طويلا, لأنه انتظار مالا يجيء!. | |

