مقالات الأهرام اليومى

حــرب لبنـان‏..‏ وحملة التسويق السياسي

في الوقت الذي كان فيه اللبنانيون يحملون ما تبقي من متاعهم ويبحثون عن بقايا ديارهم التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية‏,‏ ويسعون إلي جمع الأهل والأصحاب من شتات فرضه العدوان الآثم عليهم‏,‏ كانت حملة التسويق السياسي لنتائج الحرب تستعر في مناطق مجاورة اشتد بها الظمأ إلي شيء من النصر الغائب عن ديارهم طويلا‏.‏ وترك هؤلاء الفرحون بالانتصار اللبنانيين بآلامهم وأحزانهم وحسرتهم علي ضياع كد السنين وجهد الأيام‏,‏ وأخذوا يجوبون ميادين عواصمهم‏,‏ التي لم ينطفئ بها مصباح واحد في الحرب مرددين أناشيد نصر في حرب لم يخوضوها‏,‏ ولم يكتووا بنيرانها‏ ففي عواصم غير بيروت يرفع البعض الآن رايات تحاول انتزاع النصر من لبنان شعبا وأرضا ومقاتلين‏.‏ بل والقفز عليه لكي ينسبوه لأنفسهم‏,‏ ويتصدر هؤلاء محافل التكريم لتطوق أعناقهم أكاليل الغار في نشوة زائفة بنصر حققه الرجال في لبنان‏.‏

إن لبنان اليوم ليس بحاجة إلي مسيرات النصر في عواصم مجاورة‏,‏ أو عبارات رنانة تنطلق بغير وعي هنا وهناك‏.‏ وإنما هو بحاجة إلي من يمد يد العون لإعمار ما تهدم وزراعة ما تم تجريفه ولم الشمل الذي تفرق‏.‏ لبنان بحاجة إلي من يساعده اليوم علي استعادة وجه الحياة التي سكنت هذه الأرض طويلا‏,‏ وفاضت علي من حولها تنويرا وفنا وفكرا وثقافة‏.‏ لبنان اليوم يستحث الضمير الإنساني لاستعادة حقوقه التي داستها همجية العدوان‏,‏ ويسعي إلي ألا يفلت المعتدي بجريمته من التحقيق والعقاب‏.‏ لكن صخب النصر في العواصم المجاورة يفسد مساعي اللبنانيين الذين حققوا النصر ودفعوا ثمنه غاليا‏,‏ ويتطلعون إلي دعم دولي لجهود الإعمار التي يقومون بها‏.‏

فالمجتمع الدولي‏,‏ وإن كان أكثر احتراما للمنتصر إلا أنه أقل تعاطفا معه‏.‏ وبرغم كل حسابات المكسب والخسارة في هذه الحرب‏,‏ فإن لبنان الدولة والشعب يمكن أن يخرج منها أكثر قوة وأكثر قدرة علي تحديد ملامح سياساته الداخلية‏,‏ وأن يتحدث علنا عما ظل خافيا وراء الكواليس‏.‏ وسوف تستعيد الدولة هيبتها ومكانتها وتمارس سلطاتها‏,‏ ولن تسمح في المستقبل لحزب أو فصيل أو جماعة بأن تخرج علي إرادة لبنان بشن الحروب وجلب الدمار‏.‏ فلقد استعاد جيش الدولة سيطرته علي الجنوب‏,‏ الذي ظل خارج نطاق السيادة الوطنية تحت مسميات المقاومة‏.‏ ومن هنا فإن اللبنانيين يحتاجون الآن إلي العون العربي والدولي لكي تمارس الدولة حقوقها السيادية في الحرب والسلام‏,‏ وتكون هذه الحرب هي آخر الحروب التي تستبيح أرض لبنان لحساب دول وقوي خارجية‏.‏

إننا عندما نتأمل المشهد الذي أعقب الحرب نجد أن مظاهر الاحتفال بالنصر قد بلغت مداها في طهران ودمشق‏,‏ في الوقت الذي تعاني فيه الأوضاع الداخلية في البلدين حالة من التأزم‏.‏ فالإيرانيون يرغبون في تسويق نتائج الحرب‏,‏ بما يحقق هدفهم قبل ثورة الخوميني وبعدها‏,‏ وهو فرض الهيمنة علي المنطقة‏,‏ والسيادة العرقية والمذهبية علي سائر بلادها‏.‏ وهنا أقول إنه لايستطيع أحد أن يمنع إيران من الفرحة بما حققه حزب الله‏,‏ ولو من باب التعاطف المذهبي وليس الديني‏.‏ إلا أن تسويق هذه الفرحة بما يحقق الأهداف الإيرانية في المنطقة أمر مختلف ويستحق الكثير من التفكير وحساب النتائج‏.‏

أما الذي يفرض نفسه بشدة علي احتفالات النصر فهو ما صدر رسميا عن دمشق ورئيس دولتها‏.‏ إذ إن من حقه هو الآخر أن يفرح بعد أن عز عليه الفرح طويلا‏,‏ ونحن نسعد بفرحته المخبوءة‏,‏ ولكن ذلك لايعطيه الحق في أن يتطوع بتوزيع الاتهامات علي العالم العربي شرقا وغربا‏,‏ خاصة أن أولئك الذين طالتهم اتهاماته قد أقالوه كثيرا من عثراته التي كانت كفيلة بخلخلة الأرض تحت قدميه‏.‏ كما أنه ـ وبرغم نشوته بنصر اللبنانيين ـ مازال بحاجة ماسة إلي دعم ومؤازرة من يتهمهم اليوم بعبارات تفتقر إلي أبسط معاني النضج السياسي‏..‏ إن الخطاب الصادر عن الرئيس بشار الأسد ينتمي لعصور التهييج التي مضت ويعكس مراهقة سياسية كنا نظن أنه تجاوزها بعد سنوات من ممارسة الحكم‏.‏

فنشوة النصر بحرب ـ حلقت فيها الطائرات الإسرائيلية فوق قصر الحكم في سوريا دون أن تحرك بيدقا واحدا من فيالق الجيش السوري ـ لايمكن أن تخفي حقيقة فقدان الحكمة في المسلك السوري الرسمي بعد الحرب‏ فلقد كان بوسع السوريين الاحتفال كيفما شاءوا بنصر حزب الله دون أن يصبح ذلك مناسبة لزرع الفتنة بين العرب‏,‏ والهجوم علي القوي العربية التي حالت دون أن تلقي مقدرات الشعب السوري مصير مقدرات الشعب اللبناني من الدمار والخراب‏.‏

 

ونحن عندما نقرأ ردود الفعل الإيرانية والسورية بعد انتهاء الحرب‏,‏ نجد أنها تضع المنطقة بأسرها علي مقربة من مخازن البارود‏.‏ فالرئيس السوري لايريد لهذه الحرب أن تكون الأخيرة‏,‏ ومن أجل ذلك يدعو إلي تغيير نظام الحكم في لبنان عبر الانقلابات المفتوحة والشاملة‏,‏ حتي يصبح لبنان جزءا من تحالف ثلاثي يمتد من الجنوب اللبناني إلي طهران مرورا بدمشق‏ ومع ظهور هذا التحالف تبدأ الدعوة إلي شرق أوسط جديد‏,‏ تكون إيران محوره ونقطة ارتكازه‏,‏ ويكون بديلا عن التصور الأمريكي المرفوض باتساع المنطقة‏..‏ وهذا التصور صناعة إيرانية‏,‏ رضي النظام السوري أن يكون عرابا له‏,‏ حين أهال التراب علي العرب أجمعين وحاول تقويض النظام العربي الذي تباكي عليه وساعد علي اختراقه‏.‏

والسؤال الآن‏:‏ هل كان الرئيس السوري واعيا وجادا غير منفعل فيما قاله‏,‏ أم أنه وقع تحت تأثير اللحظة الحرجة في تطور الأحداث في المنطقة؟ وهل ستشهد الأيام المقبلة تحولا في بنية النظام السوري الذي لايستطيع حاليا القيام بالمهام التي جاءت في خطاب رئيس الدولة؟ وهل وضع الرئيس الأسد في حساباته ردود الفعل الخارجية لما عقد العهد والعزم عليه مع إيران؟ وهل يقف الآخرون موقف المتفرج وهم يتعرضون لهذا الهجوم الضاري المخمور بنشوة النصر المعنوي في لبنان؟

الحقيقة أن الرئيس بشار قد أغرته المغامرة دون وعي بالفروق بين المغامرات‏,‏ حين تقدم عليها الدول وحين تقدم عليها الأحزاب والميليشيات والحركات السياسية‏.‏ وليتذكر الرئيس بشار الأسد من اليوم أنه وحده مسئول عن مغامراته وحساباته مع إيران‏,‏ وأنه لايحق له في ثنايا مغامراته أن يطالب العرب من أجله بشيء‏,‏ وقد أهال التراب عليهم جميعا‏.‏ فلم تعد مقدرات العرب وأرواح شبابهم مرهونة بأفكار المغامرين مهما تكن دعاواهم‏.‏ فلقد بات العرب اليوم أكثر اقترابا من معادلة المكاسب والخسائر في الصراع ولم يعد الخطاب التعبوي يجدي كثيرا في تزييف الحقائق والوعي بها‏.‏

ويبقي أن يعي حزب الله حقيقة ما يدور في كواليس السياسة الإيرانية‏,‏ وأن يوازن بين ولائه المذهبي والسياسي‏,‏ وبين وطنيته المتجذرة في لبنان‏.‏ فلقد حقق الحزب مكاسب هائلة في الشارع السياسي العربي واللبناني بصموده للعدوان الإسرائيلي‏.‏ ولكن شعبية الأيام المقبلة لاتتطلب سلاحا أو استعراضات عسكرية أو تجييش الفتيات والأطفال‏.‏ شعبية حزب الله في المرحلة المقبلة مرهونة بما سوف يقوم به من أجل لبنان ووحدة طوائفه واستقراره‏,‏ وعليه أن يعمل باعتباره حزبا لبنانيا له ولاء واحد للأرض والشعب الذي يعيش بين أبنائه‏.‏ ولابد أن يسرع في التعبير عن ولائه للبنان ووحدة أراضيه والعمل من أجله‏.‏ فلقد انتهت الحرب وتراجعت الانفعالات التي رفعت شعبيته إلي آفاق عالية‏.‏ ولكن اكتشاف الدمار الذي خلفته الحرب‏,‏ وسنوات المعاناة في تعمير ما دمرته‏,‏ يمكن أن يدفع الكثيرين إلي المراجعة بشأن ما قام به الحزب‏.‏

أما علي الطرف الآخر فتقف القوي الباعثة للعنف والحقد والغضب بطول العالم العربي وعرضه‏.‏ والسياسات الأمريكية والإسرائيلية كفيلة بنقض كل تفكير عقلاني في المنطقة‏,‏ ودفع الشعوب إلي حافة الغليان ودعم الإرهاب‏.‏ ولابد أن يخضع الموقف الآن لحسابات جديدة في واشنطن وتل أبيب‏,‏ فلقد منيت الدولتان بهزيمة مريرة حين أتاحتا الفرصة كاملة لقوي التطرف بأن تعترض كل مسيرة من أجل السلام والبناء في منطقة أنهكتها الحروب الطويلة‏,‏ التي فرضت عليها من داخلها وخارجها‏.‏ إن إسرائيل لم تحقق ما كانت تريده من حرب دامت شهرا ولن تحقق في أي حروب أخري شيئا‏,‏ لكن مثل هذه الحروب تطيل أمد العداء في المحيط الذي تعيش فيه‏,‏ فسياساتها تفتقر إلي فهم الواقع‏,‏ واستيعاب دروس التاريخ‏.‏ وكذلك فإن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تبنته الولايات المتحدة‏,‏ وتحاول اتخاذ تدابير تنفيذه‏,‏ قد أدي إلي ظهور مشروع آخر يخدم المصالح الإيرانية‏,‏ وكلا المشروعين يتجاهل مصالح الشعوب وحريتها في الاختيار‏,‏ وعلي جميع القوي أن تأخذ ذلك في الاعتبار‏.‏

osaraya@ahram.org.eg

في الوقت الذي كان فيه اللبنانيون يحملون ما تبقي من متاعهم ويبحثون عن بقايا ديارهم التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية‏,‏ ويسعون إلي جمع الأهل والأصحاب من شتات فرضه العدوان الآثم عليهم‏,‏ كانت حملة التسويق السياسي لنتائج الحرب تستعر في مناطق مجاورة اشتد بها الظمأ إلي شيء من النصر الغائب عن ديارهم طويلا‏.‏ وترك هؤلاء الفرحون بالانتصار اللبنانيين بآلامهم وأحزانهم وحسرتهم علي ضياع كد السنين وجهد الأيام‏,‏ وأخذوا يجوبون ميادين عواصمهم‏,‏ التي لم ينطفئ بها مصباح واحد في الحرب مرددين أناشيد نصر في حرب لم يخوضوها‏,‏ ولم يكتووا بنيرانها‏ ففي عواصم غير بيروت يرفع البعض الآن رايات تحاول انتزاع النصر من لبنان شعبا وأرضا ومقاتلين‏.‏ بل والقفز عليه لكي ينسبوه لأنفسهم‏,‏ ويتصدر هؤلاء محافل التكريم لتطوق أعناقهم أكاليل الغار في نشوة زائفة بنصر حققه الرجال في لبنان‏.‏

إن لبنان اليوم ليس بحاجة إلي مسيرات النصر في عواصم مجاورة‏,‏ أو عبارات رنانة تنطلق بغير وعي هنا وهناك‏.‏ وإنما هو بحاجة إلي من يمد يد العون لإعمار ما تهدم وزراعة ما تم تجريفه ولم الشمل الذي تفرق‏.‏ لبنان بحاجة إلي من يساعده اليوم علي استعادة وجه الحياة التي سكنت هذه الأرض طويلا‏,‏ وفاضت علي من حولها تنويرا وفنا وفكرا وثقافة‏.‏ لبنان اليوم يستحث الضمير الإنساني لاستعادة حقوقه التي داستها همجية العدوان‏,‏ ويسعي إلي ألا يفلت المعتدي بجريمته من التحقيق والعقاب‏.‏ لكن صخب النصر في العواصم المجاورة يفسد مساعي اللبنانيين الذين حققوا النصر ودفعوا ثمنه غاليا‏,‏ ويتطلعون إلي دعم دولي لجهود الإعمار التي يقومون بها‏.‏

فالمجتمع الدولي‏,‏ وإن كان أكثر احتراما للمنتصر إلا أنه أقل تعاطفا معه‏.‏ وبرغم كل حسابات المكسب والخسارة في هذه الحرب‏,‏ فإن لبنان الدولة والشعب يمكن أن يخرج منها أكثر قوة وأكثر قدرة علي تحديد ملامح سياساته الداخلية‏,‏ وأن يتحدث علنا عما ظل خافيا وراء الكواليس‏.‏ وسوف تستعيد الدولة هيبتها ومكانتها وتمارس سلطاتها‏,‏ ولن تسمح في المستقبل لحزب أو فصيل أو جماعة بأن تخرج علي إرادة لبنان بشن الحروب وجلب الدمار‏.‏ فلقد استعاد جيش الدولة سيطرته علي الجنوب‏,‏ الذي ظل خارج نطاق السيادة الوطنية تحت مسميات المقاومة‏.‏ ومن هنا فإن اللبنانيين يحتاجون الآن إلي العون العربي والدولي لكي تمارس الدولة حقوقها السيادية في الحرب والسلام‏,‏ وتكون هذه الحرب هي آخر الحروب التي تستبيح أرض لبنان لحساب دول وقوي خارجية‏.‏

إننا عندما نتأمل المشهد الذي أعقب الحرب نجد أن مظاهر الاحتفال بالنصر قد بلغت مداها في طهران ودمشق‏,‏ في الوقت الذي تعاني فيه الأوضاع الداخلية في البلدين حالة من التأزم‏.‏ فالإيرانيون يرغبون في تسويق نتائج الحرب‏,‏ بما يحقق هدفهم قبل ثورة الخوميني وبعدها‏,‏ وهو فرض الهيمنة علي المنطقة‏,‏ والسيادة العرقية والمذهبية علي سائر بلادها‏.‏ وهنا أقول إنه لايستطيع أحد أن يمنع إيران من الفرحة بما حققه حزب الله‏,‏ ولو من باب التعاطف المذهبي وليس الديني‏.‏ إلا أن تسويق هذه الفرحة بما يحقق الأهداف الإيرانية في المنطقة أمر مختلف ويستحق الكثير من التفكير وحساب النتائج‏.‏

أما الذي يفرض نفسه بشدة علي احتفالات النصر فهو ما صدر رسميا عن دمشق ورئيس دولتها‏.‏ إذ إن من حقه هو الآخر أن يفرح بعد أن عز عليه الفرح طويلا‏,‏ ونحن نسعد بفرحته المخبوءة‏,‏ ولكن ذلك لايعطيه الحق في أن يتطوع بتوزيع الاتهامات علي العالم العربي شرقا وغربا‏,‏ خاصة أن أولئك الذين طالتهم اتهاماته قد أقالوه كثيرا من عثراته التي كانت كفيلة بخلخلة الأرض تحت قدميه‏.‏ كما أنه ـ وبرغم نشوته بنصر اللبنانيين ـ مازال بحاجة ماسة إلي دعم ومؤازرة من يتهمهم اليوم بعبارات تفتقر إلي أبسط معاني النضج السياسي‏..‏ إن الخطاب الصادر عن الرئيس بشار الأسد ينتمي لعصور التهييج التي مضت ويعكس مراهقة سياسية كنا نظن أنه تجاوزها بعد سنوات من ممارسة الحكم‏.‏

فنشوة النصر بحرب ـ حلقت فيها الطائرات الإسرائيلية فوق قصر الحكم في سوريا دون أن تحرك بيدقا واحدا من فيالق الجيش السوري ـ لايمكن أن تخفي حقيقة فقدان الحكمة في المسلك السوري الرسمي بعد الحرب‏ فلقد كان بوسع السوريين الاحتفال كيفما شاءوا بنصر حزب الله دون أن يصبح ذلك مناسبة لزرع الفتنة بين العرب‏,‏ والهجوم علي القوي العربية التي حالت دون أن تلقي مقدرات الشعب السوري مصير مقدرات الشعب اللبناني من الدمار والخراب‏.‏

ونحن عندما نقرأ ردود الفعل الإيرانية والسورية بعد انتهاء الحرب‏,‏ نجد أنها تضع المنطقة بأسرها علي مقربة من مخازن البارود‏.‏ فالرئيس السوري لايريد لهذه الحرب أن تكون الأخيرة‏,‏ ومن أجل ذلك يدعو إلي تغيير نظام الحكم في لبنان عبر الانقلابات المفتوحة والشاملة‏,‏ حتي يصبح لبنان جزءا من تحالف ثلاثي يمتد من الجنوب اللبناني إلي طهران مرورا بدمشق‏ ومع ظهور هذا التحالف تبدأ الدعوة إلي شرق أوسط جديد‏,‏ تكون إيران محوره ونقطة ارتكازه‏,‏ ويكون بديلا عن التصور الأمريكي المرفوض باتساع المنطقة‏..‏ وهذا التصور صناعة إيرانية‏,‏ رضي النظام السوري أن يكون عرابا له‏,‏ حين أهال التراب علي العرب أجمعين وحاول تقويض النظام العربي الذي تباكي عليه وساعد علي اختراقه‏.‏

والسؤال الآن‏:‏ هل كان الرئيس السوري واعيا وجادا غير منفعل فيما قاله‏,‏ أم أنه وقع تحت تأثير اللحظة الحرجة في تطور الأحداث في المنطقة؟ وهل ستشهد الأيام المقبلة تحولا في بنية النظام السوري الذي لايستطيع حاليا القيام بالمهام التي جاءت في خطاب رئيس الدولة؟ وهل وضع الرئيس الأسد في حساباته ردود الفعل الخارجية لما عقد العهد والعزم عليه مع إيران؟ وهل يقف الآخرون موقف المتفرج وهم يتعرضون لهذا الهجوم الضاري المخمور بنشوة النصر المعنوي في لبنان؟

الحقيقة أن الرئيس بشار قد أغرته المغامرة دون وعي بالفروق بين المغامرات‏,‏ حين تقدم عليها الدول وحين تقدم عليها الأحزاب والميليشيات والحركات السياسية‏.‏ وليتذكر الرئيس بشار الأسد من اليوم أنه وحده مسئول عن مغامراته وحساباته مع إيران‏,‏ وأنه لايحق له في ثنايا مغامراته أن يطالب العرب من أجله بشيء‏,‏ وقد أهال التراب عليهم جميعا‏.‏ فلم تعد مقدرات العرب وأرواح شبابهم مرهونة بأفكار المغامرين مهما تكن دعاواهم‏.‏ فلقد بات العرب اليوم أكثر اقترابا من معادلة المكاسب والخسائر في الصراع ولم يعد الخطاب التعبوي يجدي كثيرا في تزييف الحقائق والوعي بها‏.‏

ويبقي أن يعي حزب الله حقيقة ما يدور في كواليس السياسة الإيرانية‏,‏ وأن يوازن بين ولائه المذهبي والسياسي‏,‏ وبين وطنيته المتجذرة في لبنان‏.‏ فلقد حقق الحزب مكاسب هائلة في الشارع السياسي العربي واللبناني بصموده للعدوان الإسرائيلي‏.‏ ولكن شعبية الأيام المقبلة لاتتطلب سلاحا أو استعراضات عسكرية أو تجييش الفتيات والأطفال‏.‏ شعبية حزب الله في المرحلة المقبلة مرهونة بما سوف يقوم به من أجل لبنان ووحدة طوائفه واستقراره‏,‏ وعليه أن يعمل باعتباره حزبا لبنانيا له ولاء واحد للأرض والشعب الذي يعيش بين أبنائه‏.‏ ولابد أن يسرع في التعبير عن ولائه للبنان ووحدة أراضيه والعمل من أجله‏.‏ فلقد انتهت الحرب وتراجعت الانفعالات التي رفعت شعبيته إلي آفاق عالية‏.‏ ولكن اكتشاف الدمار الذي خلفته الحرب‏,‏ وسنوات المعاناة في تعمير ما دمرته‏,‏ يمكن أن يدفع الكثيرين إلي المراجعة بشأن ما قام به الحزب‏.‏

أما علي الطرف الآخر فتقف القوي الباعثة للعنف والحقد والغضب بطول العالم العربي وعرضه‏.‏ والسياسات الأمريكية والإسرائيلية كفيلة بنقض كل تفكير عقلاني في المنطقة‏,‏ ودفع الشعوب إلي حافة الغليان ودعم الإرهاب‏.‏ ولابد أن يخضع الموقف الآن لحسابات جديدة في واشنطن وتل أبيب‏,‏ فلقد منيت الدولتان بهزيمة مريرة حين أتاحتا الفرصة كاملة لقوي التطرف بأن تعترض كل مسيرة من أجل السلام والبناء في منطقة أنهكتها الحروب الطويلة‏,‏ التي فرضت عليها من داخلها وخارجها‏.‏ إن إسرائيل لم تحقق ما كانت تريده من حرب دامت شهرا ولن تحقق في أي حروب أخري شيئا‏,‏ لكن مثل هذه الحروب تطيل أمد العداء في المحيط الذي تعيش فيه‏,‏ فسياساتها تفتقر إلي فهم الواقع‏,‏ واستيعاب دروس التاريخ‏.‏ وكذلك فإن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تبنته الولايات المتحدة‏,‏ وتحاول اتخاذ تدابير تنفيذه‏,‏ قد أدي إلي ظهور مشروع آخر يخدم المصالح الإيرانية‏,‏ وكلا المشروعين يتجاهل مصالح الشعوب وحريتها في الاختيار‏,‏ وعلي جميع القوي أن تأخذ ذلك في الاعتبار‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى