عشنا زمن نجيب محفوظ

| غيب الموت عن دنيانا نجيب محفوظ, وبرحيله سكن القلب الذي ظل ينبض بحب مصر وأهلها زمنا طويلا, وتوقف القلم الذي سطر عبر عدة عقود ملامح الشخصية المصرية بتركيبتها الفريدة ومواقفها شديدة التميز في لحظات الانكسار والانتصار, تلك الملامح التي حملت عبق عصور زاخمة الأحداث وحكمة القرون, وكانت زادا للإبداع الذي بهر محفوظ به العالم فنهل منه الكثيرون في شتي الميادين. لقد حمل أدب الراحل العظيم بعمق فريد وجه مصر بملامحه المركبة وخصوصيته الحضارية فأطل علي عالم آخر لم يكن يعرف عن مصر أكثر من تاريخها العتيق, وأسعد نجيب محفوظ أجيالا من المصريين والعرب بأدبه الرفيع ومثله العليا وقدرته علي التعبير عن التغيرات التي طرأت علي حياتهم عبر عقود حاسمة في تاريخه, فلقد ظهر إبداعه في زمن التحولات الكبري فأرخها بحساسية وصدق من نوع خاص, مهموما دوما بقضايا أمته ومحافظا علي مكانته الرفيعة واحترام الجميع له أديبا ومثقفا ومفكرا. وبعد قيام ثورة يوليو المجيدة عام1952 توقف عن الكتابة لمدة خمس سنوات كاملة مشدودا إلي ماض شديد الثراء سياسيا وثقافيا, رآه يتباعد شيئا فشيئا وعندما استعاد توازنه عاد مشاركا ومتفاعلا مع كوكبة الأدباء والفنانين الذين أضاءوا المسرح والسينما وأثروا الحياة الأدبية والثقافية منذ أواخر الخمسينيات. كان نجيب محفوظ أحد كبار الكتاب الذين أطلوا علي مصر والعالم عبر صفحات الأهرام, وجمعه مكتب واحد مع الراحل العظيم توفيق الحكيم, وفي هذا المكتب ولدت أحلام وأفكار وأعمال أضاءت كثيرا من جنبات العقل المصري والعربي, وأسعدني كثيرا أن احتفل مع الزملاء في الأهرام بآخر أعياد ميلاد الكاتب الكبير وقد بلغ من العمر أربعة وتسعين عاما.وفي هذا الحفل تحدث طويلا عن الأهرام الصحيفة والمدرسة والمنارة والرسالة في عصر التنوير والتحولات, والتي كان بحق أحد أبرز رموزها وأحد صناع مكانتها في العصر الحديث. ولكن يبقي لدينا إيمان بأنه سيظل دوما معني حيا من حولنا, وسوف يبقي المكتب الذي جمعه بتوفيق الحكيم في الأهرام مفتوحا للجميع بكامل مقتنياته وما أبدعته عقول الذين سكنوه زمنا, تخليدا لذكري القمم الراسخة في أفق حياتنا الثقافية والأدبية والفكرية والتي غرست فيها القيم النبيلة وجعلتنا نختال بالكنوز التي خلفوها لنا. إننا اليوم نودع قيمة وقامة شامخة أعطت لأدبنا وفكرنا أبعادا كثيرة وأثرت عطاءنا الثقافي وخلدت أدق تفاصيل الحارة المصرية ووضعتها صرحا في ذاكرة العالم وفي مجمل إنتاج الأدب العالمي. لقد طرق نجيب محفوظ مواطن اليقظة في العقل المصري, وأعلن نهاية عصر الشعارات, ووجهه إلي طريق السلام, وظل حتي أيامه الأخيرة مصريا مهموما بقضايا المصريين ومستقبل الحياة علي أرضهم. وحين توقف القلم عن الكتابة تحت وطأة السنين ظل يجالس أجيالا يبث فيهم حكمة الأيام وخبرة السنين. رحم الله محفوظ فقد أعطي الكثير, وترك لنا تراثا سوف نظل ننهل منه عبر السنين, وألهم أجيالا معني الوطنية والحرية والتأمل في أعماق الشخصية المصرية بروافدها المتشابكة, وسار بأجيال متلاحقة في دروب الحارة المصرية حيث ولدت مصر التي نعيشها وتعلمت الحكمة ومواجهة تصاريف الأيام, وقد لقينا معه في دروب تلك الحارة شخصيات كثيرة حملت أسماء لم يكن اختيارها عشوائيا بل كانت تحمل معاني عميقة أراد لها أن تستقر في الضمير المصري وأن توجه مسيرته عبر الأيام ويبقي من نجيب محفوظ الكثير, فقد ترك لنا مرآة سوف نري من خلالها حضارتنا وواقعنا وتركيبتنا الثقافية بكل نواقصها ومميزاتها لتكون عزاء للذين أسعدتهم الحياة في وجوده, ولأولئك الذين لم يعيشوا عصره. فالخلود لم يكتب لأحد, ولكن البقاء كتب للذين مروا في الحياة, وقد تركوا بها ما يغير وجهها ويمنح الأحياء فيها زادا للبحث عن الخير والحب والجمال. |
