مقالات الأهرام اليومى

نصر المصريين حي ومتجدد

ثلاث وثلاثون عاما تفصلنا اليوم عن اللحظة التي حققنا فيها نصر أكتوبر العظيم‏,‏ وهي لحظة لم تتكرر كثيرا في تاريخ مصر الطويل‏.‏ لحظة استجمعت فيها أمة عريقة من صفحات التاريخ مواطن قوتها‏,‏ ودفعت إلي مقدمة الصفوف أعز أبنائها وصفوة رجالها يصنعون فصلا مجيدا في سفر تاريخها الطويل‏.‏ فلقد استعادت مصر في تلك اللحظة التاريخية غريزة البقاء التي كتبت بها لنفسها الاستمرار عبر المحن والأزمات التي تتابعت علي أرضها‏.‏

ولم تكن حرب أكتوبر‏1973‏ مجرد معركة في سلسلة المعارك العسكرية الطويلة التي دارت علي أرض مصر‏.‏ وإنما كانت امتحانا لقدرات أمة وإرادة شعب علي تجاوز أشد الأزمات في تاريخ مصر الحديث‏.‏ وكانت اختبارا لها لتجاوز ما مر بها محليا وما أحاط بها إقليميا وعالميا‏.‏ وواجهت مصر فيها قدرها التاريخي ودافعت عن قدرتها علي الاستمرار‏,‏ وفق نفس المعادلة التي صنعت تاريخها الطويل‏.‏

لقد قدر لمصر أن تقف ـ كما يقول المؤرخ البريطاني توينبي ـ بين مطرقة التحدي وسندان الاستجابة‏.‏ فقد ظل بقاء المصريين في هذه البقعة من الأرض مرهونا بقدرتهم علي الاستجابة لكل أشكال التحديات الطبيعية والبشرية‏.‏ فالمصريون وحدهم هم الذين أنشأوا علي مجري نهر النيل حضارة في فجر التاريخ‏,‏ وهم وحدهم الذين أخضعوا النهر لإرادتهم‏,‏ وروضوا فيضاناته المدمرة‏,‏ وأرسلوا ماءه بالخير والنماء في ربوع أراضيهم وهيأوا مناخا لمزاج مصري اتسم عبر التاريخ بالاعتدال‏.‏

وكانت حرب أكتوبر ـ بالأداء والنتائج ـ استجابة لتحديات هائلة فرضتها الهزيمة المروعة في يونيو عام‏1967,‏ تلك الهزيمة التي وقعت في ظل ظروف عالمية لم تكن مواتية وإمكانات محدودة‏,‏ وكانت حرب أكتوبر هي المواجهة الرابعة في صراع استنفد كثيرا من الطاقات دون ان يلوح في الأفق أمل لوضع حد لمسلسل الحروب‏.‏ وجاءت تلك الحرب لا لتستعيد حقوقا مصرية مسلوبة‏,‏ أو لتمحو عارا لحق بنا في الحرب السابقة عليها فحسب‏.‏ بل جاءت أيضا لتضع المنطقة بأسرها علي أعتاب مرحلة جديدة‏,‏ وتستثير اهتمام العالم بما يجري فيها لكي يتحمل مسئولياته‏,‏ وينهض بدور مختلف عما كان سائدا قبلها بعد أن تحقق النصر الحي والمتجدد‏,‏ الذي صنع السلام ووضعنا علي طريق التنمية والتحديث‏.‏

فعلي الصعيد المحلي أعادت الحرب الثقة في النفس التي عانت شيئا غير قليل من اليأس‏,‏ وأعادت للعسكرية المصرية مجدها الذي تواري خلف هزيمة سابقة‏.‏ ودفعت إلي صفوف القيادة رجالا من طراز جديد خبروا الحرب وويلاتها‏,‏ وعرفوا كيف تساس قضايا الأمة في زمن التحولات الدولية الكبري‏.‏ ومن رجال أكتوبر ظهر جيل من السياسيين أكثر اقترابا من عقلية رجل الدولة‏,‏ وأكثر بعدا عن مطامح الزعامة التي سادت العالم الثالث طوال سنوات الستينيات‏.‏ وهكذا جاء جيل أكتوبر بعقلية مختلفة‏,‏ ورؤي أكثر واقعية وطموحات أكثر التصاقا بآمال المصريين‏.‏


وجاء حسني مبارك من بين صفوف المقاتلين الأشداء في حرب أكتوبر ليقود مسيرة مصر عقب الحرب‏.‏ جاء بعقلية رجل الدولة مستلهما معاناة طالت مع الحروب‏,‏ ومستكشفا طريقا أقل تكلفة في استعادة الحقوق‏,‏ وراغبا في مسيرة بناء تخفف من الأعباء المتزايدة‏,‏ ومستوعبا المتغيرات الدولية المتلاحقة التي كانت تفرض آليات عمل جديدة في المجتمع الدولي‏.‏

فلقد كان خيار السلام عند حسني مبارك هو خيار المقاتلين المنتصرين في الحرب المجيدة‏,‏ فبات السلام عقيدة لم يحد عنها‏,‏ واستطاع أن يحقق به ما كان صعبا أن يحسمه القتال في ساحات المعارك‏.‏

إن حرب أكتوبر وضعت المنطقة في منعطف جديد‏,‏ وأوجدت واقعا مغايرا‏,‏ وفرضت رؤي مختلفة‏.‏ وكانت نتائجها تحديا من نوع جديد‏,‏ كما كانت استجابة مصر في حجم تلك التحديات‏.‏ فمثلما قادت الحرب كان قدرها أن تخوض معركة السلام‏,‏ وهي أطول كثيرا من معارك الحروب وكان أداؤها في صراع السلام في مستوي أدائها في معركة الحرب‏.‏

وتحملت في قيادتها مساعي السلام كثيرا من لوم الأشقاء ولدد الخصوم علي السواء‏.‏ ولأنه لاحرب بدون رجالها‏,‏ ولا سلام بغير مساعيها‏,‏ فإن مصر أصبحت في عين العاصفة‏,‏ تشخص إليها الأبصار في كل مرة تتعثر فيها مساعي السلام‏,‏ أوتلوح في الأفق نذر المواجهة‏.‏ وخلال العقود الثلاثة الماضية تجاوزت مصر بالمنطقة عثرات السلام ومخاطر الحروب‏.‏ وهي توقن أن إرادة السلام سوف تنتصر في النهاية‏,‏ برغم أن المنطقة تغص بالجوعي إلي الحرب التي تخفي أطماعهم وحيلهم للوصول إلي أهدافهم‏.‏

إننا في ذكري حرب أكتوبر‏(‏رمضان‏)‏ نذكر بكل الإجلال والتقدير كل الرجال الذين رووا بدمائهم وعرقهم الأمل‏,‏ وبثوا الثقة في نفوس المصريين والعرب جميعا‏.‏ فتحية للشهداء والأحياء الذين يذكرون اليوم بطولات ذلك الحدث المجيد‏,‏ وسوف نذكرها معهم عرفانا وتقديرا واحتراما لما يستحق الاحترام‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى