من هنا نعرف

خلط الأوراق هو أكثر ما يميز الساحة السياسية في المنطقة الآن. إذ لم يعد ترتيب الأولويات يخضع لمنطق أو مصلحة حقيقية. ففجأة تقفز إلي السطح أحداث واهتمامات وأصوات ثم تختفي لتحل محلها أخري. وما بين هذه وتلك تناثرت الاتهامات وتشتتت الاهتمامات, ولم تعد هناك أجندة واضحة تهدي خطي الجميع وتجمع الجهود الكثيرة المتناثرة في سياق واحد يقترب بنا من أهدافنا المحلية والإقليمية.
في الداخل ألقي الرئيس حسني مبارك أمام البرلمان حزمة من الإصلاحات والمهام التي تتطلبها حياتنا السياسية في المرحلة المقبلة, وهي الإصلاحات التي انتظرناها كثيرا. وكان من المفترض أن تمثل تلك الحزمة من الإصلاحات والسياسات محور العمل الوطني من جميع الأحزاب والتيارات, خاصة أن الرئيس دعا إلي حوار وطني عام حول ما يخص التعديلات الدستورية منها, بحيث تشارك فيه جميع الأطراف. ولكن طفت فجأة علي سطح حياتنا السياسية والبرلمانية قضية الحجاب بسبب قول عابر لوزير الثقافة, فأصبح الحجاب قضية الوطن ومهمة البرلمان الأولي, وكذلك في الوقت الذي نجحت فيه الجهود المصرية في التوصل إلي هدنة, تجدد الأمل في تفاوض آمن من أجل وضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني, ووقف حمام الدم المتدفق في الأراضي المحتلة, ظهر من ينكر جهود مصر ويلقي بالشكوك حول الهدنة الوليدة. وفي الوقت الذي أعلنت فيه طهران, أن حل الأزمة العراقية لابد أن يمر بالقاهرة, وأعلنت أطراف أخري أن الجهود المصرية تسعي مع الأطراف الدولية والإقليمية لوضع حد للأزمة الراهنة في دار فور, خرج علينا من ينعي دور مصر الإقليمي وتراجعه دون معرفة بالتغيرات الراهنة في المجتمع الدولي, وهي التغيرات التي تفرض أبعادا جديدة وآليات مختلفة في القيام بدور إقليمي فاعل.
لقد أصبح خلط الأوراق سمة أساسية لتعامل الإعلام العربي مع قضايانا المحلية والإقليمية, وأصبحت أولويات الاهتمام خاضعة تماما لحفنة قليلة من الكتاب والمحللين عبر شاشات الفضائيات العربية, وقد أصبح هذا الخلط مربكا لرجل الشارع في جميع أنحاء العالم العربي الذي لم يعد بسبب الفيضان الإعلامي اليومي قادرا علي تلمس الحقيقة ومعرفة حقيقة ما يجري علي أرضه ومن حوله.
إن ما حدث في فلسطين يعد بكل الاعتبارات نجاحا لجهود مصرية دءوب في مواجهة مشكلة معقدة علي جانبيها وسط ظروف بالغة التعقيد إقليميا وعالميا. وعلينا أن ننظر إلي ما تحقق في فلسطين من نجاح علي أنه مؤشر لفاعلية الدور المصري في محيطه الإقليمي, وفي ضوء المقومات الحقيقية والواقعية المتاحة في عالم اليوم. فتعقد الأوضاع يتطلب دأبا وجهدا لايتوقف إذا أردنا الوصول إلي سياسة واحدة متماسكة وإلي تفهم حقيقي لمأساة الشعب الفلسطيني.. ولاشك أن التفاؤل بما تحقق يحتاج إلي رعاية ومتابعة لأنه مازال معرضا لتهديدات فضلا عن كونه اللبنة الأساسية التي سوف تبني عليها جهود الأيام المقبلة.
فهذه الهدنة هي اتفاق بين فصائل المقاومة وإسرائيل بما ينطوي عليه ذلك من اعتراف إسرائيل ضمنا بالمقاومة وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. كما أن هذا الاتفاق يفتح أبوابا واسعة أمام إجراءات وسياسات جديدة سوف تنعكس علي الأوضاع القائمة في الأراضي المحتلة. فالهدنة توفر للفلسطينيين فرصة إعمال إرادتهم في شأنهم الداخلي دون تهديد أو تقويض من مصادر أخري. ولابد أن تحرص الفصائل الفلسطينية علي مواصلة الأداء السياسي الراهن بما يمكنها من تحقيق أهداف مازالت محل إجماع بينها, غير أن الإجماع علي الأهداف يتطلب أيضا إجماعا علي الوسائل في بعض الأحيان.. فإسرائيل وللمرة الأولي تعلن أنها سوف تتحلي بالصبر حتي إذا خرجت الفصائل الفلسطينية أو بعضها علي هذه الهدنة. ولا ننسي أن جهود السلام المصرية عبر السنين هي التي فرضت اليوم علي الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني تغيير المواقف وإعادة النظر في السياسات التي تمسك بها كل طرف ولم تحقق له شيئا من أهدافه.
………………………………………………………..
لقد كان مجيء حماس إلي الحكم بشعارات وسياسات جديدة ينطوي علي تقويض جهود السلام التي بذلت من قبل. وكان ضروريا أن تبدأ جهود السلام من الصفر, ومع ذلك لم تيأس الدبلوماسية المصرية, واستمرت في مساعيها حتي أدرك الأشقاء في حماس مقتضيات الواقع الجديد, وأن الهدنة سبيل أكثر فاعلية بعد أن كانت من قبل خيانة للقضية والوطن الفلسطيني. وقد جاء هذا التغير في فكر حماس بمساندة القاهرة وجهود رجالاتها, وبدونها لم يكن ممكنا أن نشهد ذلك الانفراج والأمل الوليد في تسوية تحقن الدماء الفلسطينية وتعيد الأمل في الأمن للمواطنين الذين يدفعون أكثر من غيرهم ثمن التشدد علي الجانبين.
………………………………………………………..
وفي السودان, تتفاقم الأوضاع محليا وعالميا. فعلي الصعيد المحلي يزداد الصراع بين التيارات السياسية. وعلي المستوي الدولي هناك خلاف حاد حول دخول القوات الدولية, ولابد أن يعرف الجميع أن أمن مصر مرتبط بأمن السودان ولايمكن للدبلوماسية المصرية أن تتراجع أو تكتفي بمراقبة ما يحدث هناك. فاستقرار السودان, ينعكس سلبا أو إيجابا علي مصر التي لايمكن أن تقوم بدورها منفردة عن حكومة السودان ودول الجوار الإفريقية والمجتمع الدولي. وقد شاركت مصر في مؤتمر أديس أبابا وطرحت رؤيتها من أجل التوصل إلي صيغة مقبولة لمسألة القوات الدولية, حتي لايحدث صدام بين السودان والأمم المتحدة وتتولي الدبلوماسية المصرية إدارة الحوار مع الحكومة السودانية وصولا إلي أفضل الحلول علي الجانبين.
…………………………………………………………….
وفي مواجهة التدهور المستمر للأوضاع في العراق مازالت مصر تحتفظ بدور نشيط مع جميع الأطراف للخروج من النفق المظلم الذي يعاني فيه العراقيون كل المعاناة.فالتدمير الذي لحق بالعراق أوجد حالة من الفراغ السياسي في المشرق العربي, الأمر الذي دفع إيران للتحرك النشيط بما ينطوي عليه ذلك من أخطار وتهديد لمنظمة الأمن القومي العربي. فإيران اليوم انشط من أي وقت في تاريخها منذ قيام الثورة الإسلامية, وتحاول التأثير علي الأوضاع في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين بما يخدم مصالحها, التي قد تتعارض وتتقاطع مع المصالح العربية العليا. وتواجه مصر تحديا كبيرا في هذا المجال. فليست هناك قوة إقليمية أخري يمكن أن تدرأ تلك الأخطار غيرها, ومن هنا فإن مساعيها في هذا الصدد تحتاج إلي دعم عربي, خاصة أن الظروف الدولية مواتية الآن لاختراق مفهوم الأمن القومي العربي. ولابد أن يعي الذين يتحدثون عن الدور الإقليمي أن ذلك الدور لم يعد ممكنا أن يستخدم آليات الستينيات, فذلك عصر مضي وانقضي زمانه, ونحن أمام واقع جديد يتطلب رؤي وآليات جديدة تنهض بها مصر في كل الملفات الساخنة بالمنطقة العربية.
…………………………………………………………….
ويحسب لمصر وجهودها قوة العلاقة التي طورتها الدبلوماسية المصرية بتوجيهات الرئيس حسني مبارك مع دول الاتحاد الأوروبي, الذي أصبح ينظر لمصر باعتبارها نموذج الاعتدال وضابط الإيقاع في المنطقة. ولاشك في أن زيارات الرئيس مبارك المتعددة لعدد من الدول الأوروبية خير شاهد علي عمق العلاقة التي تستخدمها مصر في إدارة الأزمات الإقليمية واحداث التوازن بين القوي العالمية اللاعبة في المنطقة. كما أن مصر بدأت مبكرا في تنمية روابطها التقليدية بقوي جديدة بدأت تظهر علي المسرح الدولي, مثل الهند والصين ودول جنوب شرقي آسيا, وكذلك روسيا القوة الدولية الكبري العائدة لمكانتها الدولية. وهذه العلاقات التي بدأت في النمو ليست بديلا عن العلاقات مع الولايات المتحدة القوة الكبري في العالم, ولكنها إضافة إليها تدعم قدرات مصر علي التفاوض والعمل من أجل الاستقرار في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
……………………………………………………….
أما علي الصعيد المحلي فقد وقعنا في خلط الأوراق وإعادة ترتيب الأولويات بما لايخدم ديننا ومصالحنا وهمومنا وما ينتظرنا من مهام. فلقد وقع البرلمان والصحافة ضحية أجندة خفية غير معلنة متسترة بالدين تستغل مشاعر التدين العميقة عند المصريين لتجعل من قضية الحجاب مصدر تهديد لتعاليم دين وأسس عقيدة استقرت منذ قرون في أعماق المصريين. وبسبب التغطية الصحفية المكثفة للقضية سادت المزايدات وتباري الجميع في التشدد وفقدنا القدرة علي الحوار الذي هو من أسس الديمقراطية التي تباكينا عليها طويلا, ولا أدري أي ديمقراطية نعمل من أجلها إذا كانت تلك هي لغة الحوار حول قضية الحجاب مهما يكن أمرها. فهذه القضية سوف تطويها الأيام وتنتهي, ولكن الحقيقة التي ينبغي الوقوف عندها هي قدرة المجتمع علي الحوار وتبادل الرأي فيما سوف يجد في حياتنا من قضايا. وإذا كنا جادين في مساعينا الديمقراطية فعلينا أن نطور قدرتنا علي التحاور وقبول الرأي الآخر. فالديمقراطية ليست اختراعا مصريا, ولكنها ممارسات سبقتنا إليها دول أخري كثيرة, وعلينا ان ننظر كيف يتحاورون وكيف يختلفون, وكيف يجتمعون عند قضايا الأمة الأساسية التي هي أولي بالجهد وبالاهتمام.
إن مشكلاتنا لم تنته حتي يستنفد الحجاب منا كل هذا الجهد. وقد كان من الممكن أن تحظي القضية باهتمام رشيد نسدد به خطانا بالاستعانة بالآراء الفقهية والدينية بدلا من أن تتحول القضية إلي مزاد انتخابي يخاطب فيه كل عضو أبناء دائرته الذين جعلتهم بعض وسائل الإعلام غاضبين منتظرين قول الرجل الذي اختاروه للبرلمان.
ألم يكن أولي بالجهد أن ننظر فيما طرحه الرئيس لنسرع الخطي نحو القيام بتعديلات دستورية وإقرار تشريعات تدفع الحياة في المجتمع خطوات إلي الأمام؟.
إننا أحوج ما نكون الآن لكل جهد وكل كلمة تدفع بنا في الاتجاه الصحيح, كما إننا في حاجة إلي أن نعرف حقيقة ما يجري الآن لإصلاح الداخل وتحقيق الاستقرار من حولنا, وألا نجعل حفنة من الناس يحددون لنا ما الذي نفكر فيه وما الذي نعمل من أجله.
osaraya@ahram.org.eg
