
أسامة سرايا
تابعت، مثل كل المصريين، بشغف، حدث مناقشة موضوع “السد المقام فى آخر طرف على الحدود بين إثيوبيا والسودان على النيل الأزرق” بمجلس الأمن، فى محاولة مصرية جادة لتلافى الصراعات حول المياه، والنيل الخالد، وقرأت بدقة تقرير مصر، على لسان وزير الخارجية، الذى أطالب الإثيوبيين بإعادة قراءته بإمعان، لاستخلاص المعانى، بل تعديل سياساتهم تجاه هذا السد، لأنه تقرير غير عادى، ودقيق، كُتب بمِداد الصبر، لشرح الأبعاد المختلفة، والمتنوعة..
إن الموضوع جد خطير، ولهذا تم طرحه على الصعيد الدولى، عبر مجلس الأمن، فهو مصدر تهديد وجودى لحياة أكثر من 100 مليون مصرى، من خلال الإجراءات الأحادية، التى تلوح باتخاذها بين الحين والآخر دولة المنبع ضد دولتى المصب، وتأثير ذلك على السلم والأمن، واندلاع الصراعات فى إقليم يعانى قدرا من الهشاشة.
ولعل سرعة استجابة مجلس الأمن للمناقشة؛ تُظهر للجميع أن هناك إدراكا حقيقيا، واستبصارا لأبعاد هذه القضية الدقيقة على الصعيد الدولى، والدول الكبرى المؤثرة عالميا، خاصة أن مجلس الأمن، ودول العالم كله، تعيش حالة تتداخل فيها القضايا العالمية الخطيرة بين الحروب، والصراعات العسكرية، والبيئية، والاقتصادية، التى تؤثر على الجميع، وقد أعطى مجلس الأمن للطلب المصرى (مناقشة القضية) اهتماما يجعلنا نشعر بأن بالمنظمة الدولية أدركت خطورة ما يحدث من تطورات متلاحقة فى حوض النيل، وقد تصورت إثيوبيا أن طرح هذه القضية على مجلس الأمن رغبة فى التدويل، أو يأسا من التفاوض الثنائى، أو الثلاثى، أو تمييزا بين المجالس الإقليمية والعالمية (سواء المجلس الإفريقى، أو جامعة الدول العربية، أو جهات أخرى) وبين المنظمة الدولية، أو بداية لحالة عدائية بين الدولتين، ولكن الاتجاه المصرى عكس ذلك تماما، وإذا ما أدركته إثيوبيا بمفهومه الكامل والصحيح؛ فهو إيجابى للغاية للجميع، ولكلتا الدولتين (مصر وإثيوبيا)، وكذلك السودان، خاصة أن ذلك يأتى رغبة فى أن تنضم دول العالم لتشهد حقيقة هذا الصراع من أوله، وخطورة تفاقمه، أو اندلاعه على الجميع.
ولأن مصر، كما أوضحت، من البلاد الفقيرة فى المياه، وتعيش فى حوض النيل الغنى بالمياه، فقد كان لها أن تطلب من أشقائها، أو شركائها فى هذا الحوض، أو النهر، حصصا إضافية من المياه، وليس حفظ حقوقها التاريخية، أو حصتها فقط، التى لا تُلبى احتياجاتها، وتجعلها فى حالة من الفقر المائى والاقتصادى، فهذا النهر الذى نعيش فيه ليس حكرا على مصر، أو ملكية خالصة لأى دولة أخرى مشاطئة له، وإنما هو ميراث مشترك، ووديعة مقدسة لخير شعوبنا جميعا، وإذا كنت أُقدر ظروف إثيوبيا الاقتصادية، وحاجتها الماسة للتنمية، والتطور، ورفع مستوى الشعب الإثيوبى الشقيق، وأنها رفعت شعارات النهضة باسم هذا السد لرفع الروح المعنوية للشعب الإثيوبى، وهذا حقها، فإن إظهار أن ظروف إثيوبيا الاقتصادية الدقيقة ترجع إلى أن مياه النهر لا يستفاد منها ليس حقيقيا على الإطلاق، وتلك رؤية خاطئة، لأن إثيوبيا بها مياه، ووفرة من الأنهار، وغِنى من الأمطار، وليست فى حاجة إلى المياه الحبيسة، أو المخزنة، فى هذا السد المسمى “النهضة” على غير حقيقته.
لذلك، فإن كل ما نطلبه نحن والسودانيون من الإثيوبيين هو رفع معدلات الأمان لهذا السد، حتى لا تتأثر بلادنا بأى مخاطرقد تكتنفه فى المستقبل، لأننا مازلنا نشعر بأنه معيب جدا، ويحتاج إلى الكثير من الدقة فى الإنشاءات، كما أن تخزينه الصخم للمياه لا يتناسب طرديا مع ما يولده من كهرباء، مما يجعل تأثيره فى مستقبل ورفاهية الإثيوبيين محدودا للغاية، وتتنافى فكرته تماما، ليكون بدلا من سد للرفاهية سدا عدائيا لدولتى المصب.
وهنا أريد أن أوضح حقيقة أخرى، هى أننى لو كنت مكان المسئولين فى إثيوبيا أو مصر لجعلت جُل اهتمامى، أو أولوياتى، تلافى كل أوجه الصراع على النيل، الذى بدأ يتسرب إلى الشعوب، ولقمت بتأمين هذه الشعوب، وزيادة الثقة بينهم، فهذا أفضل من الخوف، أو عدم الثقة، الذى ينتاب شركاء النيل بسبب السد، وذلك حماية لاقتصادات تلك الدول، ومستقبل التعايش لكل دول حوض النيل، الذى لا يمكن دون الاتفاق حوله التعاون، أو زيادة اقتصادات المياه المتوافرة حول أحواضه، وبحيراته، أو تحقيق النهضة، التى تريدها إثيوبيا، كما أن الإثيوبيين يجب أن يكونوا على مستوى الذكاء، الذى يجعلهم يكسبون المصريين، فهم طريقهم، الذى يكاد يكون الأول والوحيد للاستثمار والتنمية فى كل إثيوبيا، خاصة فى قضايا المياه، والزراعة، والتنمية، والكهرباء، وتأمين الاستقرار لكل دول الحوض.
لقد تلقيت من خبير مائى مصرى بالخارج ما يفيد أنه مصدوم من الحوار الدائر فى الشارع الإثيوبى والمصرى حول المياه، خاصة ممن يَحُض على الكراهية بلا مبرر حقيقى، فالجميع لا يحتاجون ذلك بين البلدين، وأنه مذهول من رؤيته علماء إثيوبيين يشاركون فى هذا المسار الخاطئ، الذى قد لا يساعد المفاوضين على تحقيق مصالح بلدهم، ويطالب الجميع بأن يتحلوا بالروح الإفريقية، ودعانى الخبير إلى مواصلة الطلب من الشارع المصرى شرح أبعاد الحقوق المائية للإثيوبيين، وأن نسير فى المسار نفسه، الذى يبحثون حوله، وهو النهضة فى إثيوبيا، وليس العكس، وأن المياه الوفيرة فى أحواض النيل لا يمكن أن تخرج من الحوض إلا من مصبه، وهذا يحتاج إلى التعاون فى زيادة الإيرادات المائية، ثم استثمارها بعد ذلك، وليس قبل ذلك، وإذا كان ينقصهم الخبراء القانونيين، الذين يستعينون بهم، فلنبحث عن مكتب خبرة قانونية عالمى يصيغ الاحتياجات الإثيوبية، ومخاوفهم، وفى الوقت نفسه، يسمع بدقة إلى المخاوف المصرية، ويُضّمنها فى اتفاق ملزم يوقف التلاعبات، والمناورات المضادة، ويصل بالجميع إلى موقف السلامة، والتأمين.
وأخيرا، فإن مصر من الدول التى تحترم الاتفاقيات، والمواثيق، والتعاملات الدولية، ولهذا فهى تحتاج إلى شريك إثيوبى على مستوى هذه الروح والمسئولية، ولذلك لجأت مصر إلى كل الجهات الإقليمية والدولية، للوصول إلى اتفاق، ولكيلا تترك هذه المنطقة الحساسة والملتهبة تشتعل، وتزيد المرارات بين الشعوب، لأننا نحتاج إلى النهضة الحقيقية، التى نبحث عنها، سواء فى مصر، أو السودان، أو إثيوبيا.
