
المصريون المعاصرون متشوقون إلى هدف كبير يخطف أبصارهم، ويلفت نظر العالم إليهم، وهم يستحقون أن يصلوا ما انقطع فى مسيرة بناء الحضارة الإنسانية.
ولم أجد أفضل من منظومة تغيير الصحة بأكملها، وإعادة بناء تلك المنظومة على أسس من القيم والأخلاق والعلم والأطر المؤسسية الحديثة.
وقد نجح المصريون أخيرا فى علاج فيروس سي، وفى سنوات وجيزة أنجزوا إنجازا علميا كبيرا، كادوا يتخلصون به من هذا الفيروس الوبائى الخطير، وكان قد تفشى بين المصريين، وهدد صحتهم العامة، وقصف أعمارهم قبل الأوان!.
ونحن قادرون على الإنجاز، لو تم الاهتمام بأصحاب القدرات الخاصة، وجعلنا من هذه القدرات مقياسا لإنسانيتهم. فبعد سنوات طويلة، من التخطيط والتفكير، أصبح لدينا منظومة للتأمين الصحى الشامل على المواطنين، وقد بدأ تنفيذها فى محافظة ساحلية هى (بورسعيد)، كبداية لهذا العمل الجبار الذى سيمتد إلى كل محافظات الجمهورية.
ونحن فى حاجة ملحة لنواجه الزيادة السكانية، ومن الضرورى أن ننظم النسل حتى نكون قادرين على رعاية النشء الجديد، وتغيير البيئة البشرية المصرية بالكامل، حتى تتكيف مع عالمها وعصرها الحالي، وتكون جزءا مشاركا فى صياغة مستقبله، وبناء حاضرها.
وهى قضية مصيرية، وأكثر من حيوية، لا لأنها تأكل ثمار التنمية، وتؤخر تقدم البلاد، بل لأنها هى العمل الجاد الوحيد الذى سيعيد إشراك ودمج كل المصريين فى حياة جديدة، تتناسب مع تاريخهم ورؤيتهم لمستقبلهم الذى يبحثون عنه منذ سنوات، ولم يجدوه بعد، ولم ولن يتوقفوا حتى يجدوه.
والصحة تكاد تكون من القضايا التى يمكن النجاح فيها، فنحن نملكها منذ القدم، ومنذ التاريخ القديم والوسيط والمعاصر، كما أننا نشترك جميعا فى الاهتمام بها، وبإنسانيتها، فهى للجميع: حكومة وشعبا، أصحاء ومرضي، أغنياء وفقراء، ريفا وحضرا، شبابا وأطفالا وشيوخا، نساء ورجالا، كما أن الصحة لا نملكها بالعلم والبحث فقط، بل بالإنسانية والقيم والأخلاق، فالطبيب أو الممرض أو الصيدلى لا يتفوق بعلمه وحده، بل بإنسانيته وأخلاقه يعلو، ويحتل مكانته بين الناس وبين مرضاه.
ونحن منذ سنوات بعيدة نبحث عن سلعة أو خدمة نتفوق فيها، ونقدمها لأهالينا والعالم بقيمتها، وعلو شأنها، ومنذ سلعة القطن بحثنا عن البترول، وبحثنا عن إنتاج مصري، والآن نبحث عن الغاز، وبحثنا من قبل عن صناعة السياحة، وأن نكون ملاذا للعالم. وفى الستينيات بحثنا عن الإنتاج من الإبرة إلى الصاروخ، وقد نجحنا فى أشياء وأخفقنا فى أخري.
فى الماضى شق المصريون القنوات والترع، وأصبح لدينا قناة السويس تربط البحرين الأبيض والأحمر، وفى سنواتنا الأخيرة جعلنا من قناة السويس قناتين، وهذا نجاح لا شك فيه، ولكننا لم نجد الفردوس المصرى الذى نبحث عنه!.
بحثنا عن تنظيم الرى والزراعة بشق القنوات والترع وبناء السدود المختلفة، منها العالى والمتوسط لتنظيم مياه الري، وحماية النهر وتذليله لخدمة الناس، ومجابهة العطش للإنسان والمزروعات، ولكننا لم نتفوق بعد، ولم نجد الفردوس الذى نبحث عنه.
أعتقد أن الفردوس سيكون فى عودة إمحوتب، أول طبيب فى التاريخ، أو أبو الأطباء، فقد كنا عبر تاريخنا مبتكرين فى عالم الطب، وكان الطبيب المصرى أكثر الأطباء تسامحا مع مرضاه، ومحبا وعطوفا، فالتاريخ يحكى لنا أنه كان يأخذهم فى نزهه فى النيل، وأطباؤنا هم من وضعوا القيم الأخلاقية والمبادئ التى يراعيها الطبيب عند معاملة مرضاه، ولم تتطور هذه المهنة إلا بامتزاج أبى الطب القديم مع أبو أقراط أبى الطب الحديث فى الإسكندرية، ومنها ظهر القسم الذى يقسمه الأطباء فى كل أنحاء العالم للجمع بين الجانبين العلمى والروحى الذى لا يستقيم الطب إلا بهما، وما قطعناه فى السنوات الأخيرة ينم عن قدرتنا بأن نجعل من منظومة الصحة المصرية منظومة عالمية، بإعادة بعث التعليم الطبى على كل المستويات، وتأهيل بناء الممرضات وبناء المستشفيات الكبيرة والصغيرة، ومنظومة التأمين الصحى الشامل ستوفر للأطباء حياة كريمة، تنهى التجارة فى الطب، وتجعل من الطبيب والممرضة والصيدلى رسالة مهمة لإعادة بعث الحضارة المصرية الجديدة.
المهم أن الموارد المالية ليست وحدها هى المنقذ فى عالم الطب، ولكن أن نستحث القيم المصرية الخالدة، وإنسانية المواطن والطبيب وروح المجتمع هى الطريق لإعادة بعث هذه المهنة السامية والخالدة والكامنة فى الضمير المصري، ولكنها تبحث عمن يبحث عنها، وتركز على إعادة بعث الحضارة المصرية عبر مهنة خالدة وسامية أبطالها: الطبيب والممرض والمستشفي.
إذا أدركتم أن المصريين كانوا فى السنوات العشر الأخيرة يبحثون عن أنفسهم، وعن أرواحهم ولم يجدوها حتى الآن فى الثورات أو فى الفوضى أو الاضطرابات، وأنهم يريدون أن يصنعوا من حاضرهم التاريخ، كما كان أجدادهم صناع تاريخ وحضارة، وأننا رحنا نبنى فى كل مجال من طرق ومشروعات ومصانع، ولكننا نبحث عن بناء يخلدنا ويجعلنا جزءا مؤثرا فى عالمنا المعاصر، فإن ملاذنا أن نجعل كل مصرى ومصرية شريكا بالعمل والضمير والعلم والمهنة التى ستجمعنا بها العلم والقيم وتجمع الطبيب بالمريض، ولكننا بحثنا عن الصحة، وبصحة الإنسان نبنى الحضارة، ولا نغيب عنها، ويكون الكل شريكا فى هذا العمل، ولن يتخلف أحد.
جربوا تجدوا التبرعات والمشاركات، شرط أن تضمنوا أن تذهب فى المجال الصحيح للمرضى والأطباء والمستشفيات، وأن يشترك الشعب والجيش والحكومة فى هذا العمل الجبار، لتكون لمصر علامة فى هذا القرن الجديد، تقترن باسمها، وأن تقدم الأجيال المعاصرة للإنسانية شيئاً ما، وربطت مع أجيالهم القديمة، وأصبحت جزءا مؤثرا فى عالمها.
