حتى لا تتكرر أزمة البطاطس والطماطم

من يقف وراء أزمة البطاطس والطماطم؟ أليس غريبا أن تكون مصر بلدا منتجا، ومصدرا لهاتين السلعتين، وتحدث هذه الأزمة؟ إن سمعة البطاطس والطماطم المصريتين معروفة، ولهما مذاق خاص، والأسواق والمتاجر الأوروبية الكبيرة تميز هاتين السلعتين بسعر مختلف، ويبحث عنهما المستهلكون، ليس للجودة فقط، ولكن للطعم أيضا، ولطبيعة التربة، سواء كانت رملية أو طينية، وفى الماضى كانت الأزمة تأتى من طبيعة الإنتاج، بسبب الإصابة بالفطريات أو المنافسة مع منتجين آخرين.
لكننا، منذ سنوات لم نسمع عن أية أزمات فيهما، وإن كنا نسمع، من حين لآخر، عن طفرات فى سعر الطماطم مثلا، ثم يعود السعر إلى طبيعته سريعا، ومصر الآن تنتج الطماطم بكثافة، فهناك مدن ومزارع تخصصت فيها، وحققت تميزا فى غزارة الإنتاج.
ولذلك، انتابنى ضيق وحزن، حين سمعت عن نقص حاد فيهما، وقد تحولتا إلى نكتة فى الأسواق. وتكمن المشكلة لدينا، عادة، فى عدم تنظيم آليات العرض والطلب، وضعف الإدارة القانونية القادرة على ضبط الأسواق، وانتظام السلع، وبأسعار مناسبة، كما أن التجارة الداخلية لا تزال فى حاجة إلى تطوير، وآليات جديدة، ووصول السلعة إلى المستهلكين، وليس عبر مجموعات احتكارية من التجار، لجأوا، بعد ابتزاز المنتجين، إلى تخزين السلع، وعدم طرحها فى الأسواق بالكميات المناسبة.
فبرغم وجود مؤسسات حديثة، لمنع الممارسات الاحتكارية مثل جهاز حماية المنافسة، ومنع الممارسات الاحتكارية، واختيار شخصيات قادرة ذات خبرات متنوعة لإدارته، وعلى رأسه الآن د. أمير نبيل ، ومن ذوى التخصصات والدراسات المتميزة فى جامعات أمريكية وأوروبية، ومن مجموعة منتقاة من الخبرات المصرية المتميزة, فإن أيديهم مغلولة، وحتى يكون هذا الجهاز مؤثرا، يجب أن تتوافر فيه معايير الاستقلال الشخصى والمؤسسي، بمعنى أن يظل بعيدا عن التدخلات الحكومية، وعن تضارب المصالح، حتى يكون قادرا على الفصل بين الحكومة والمنتجين، وبين المنتجين والتجار والمستهلكين.
وعندما يفصل هذا الجهاز فى قضية من قضايا السوق، يجب ألا يكون لأحد من أعضائه ارتباط، أو مصلحة مع السلعة المذكورة، ولذلك وجدنا، فى أزمة البطاطس الأخيرة، أن أصل الأزمة يرجع إلى المجالس السلعية المشكَّلة من وزارة الزراعة، فهى التى تحدد كميات التصدير، وكميات السوق المحلية، ويكون أعضاؤها من كبار المنتجين، أو المصدرين، وأصحاب المصلحة، فكيف يستطيعون أن يغلبوا المصلحة العامة على مصلحتهم الشخصية؟ ونجاح هذه المجالس يكمن فى الاستقلال، ومنع الضغوط، سواء من السوق، أو المصالح، أو حتى الضغوط السياسية. إن الاقتصاديات الحرة أصبحت تملك الآن أدوات لحماية المنافسة، أهمها السلطات الإدارية بفرض الغرامة، أو عزل المديرين لارتكابهم ممارسة احتكارية، فالدور الرقابى بلا آليات رقابية، لا تملك القدرة على ضبط الأسواق، يكون هو والعدم سواء.
بعد أزمة البطاطس والطماطم، وحتى لا تحدث أزمات أخري، يجب أن يتدخل البرلمان لإعطاء الأجهزة الرقابية سلطة فرض الغرامات، والتدابير الوقتية، وسلطة عزل المديرين فى حالة المخالفة، مثلما يحدث فى الرقابة المالية بالضبط، باعتبارها جريمة غير أخلاقية، فالرقابة المالية، إذا كانت تحمى صغار المستثمرين، فأجهزة الرقابة، ومنع الاحتكارات، تحمى البسطاء والفقراء من التغول فى الأسعار، أو حدوث أزمات فى احتياجاتهم الغذائية، وهم أولى بالحماية، ولهذا الغرض أنشئت أجهزة المنافسة، ومنع تضارب المصالح، لتكون صوت الناس، وتلبى احتياجاتهم فى الوقت نفسه. فالاقتصاد الحر له آليات، ومؤسسات رقابية لحمايته، وفرض المصلحة العامة، وأهم المعايير هو الاستقلال عن الدولة، وعن القطاع الخاص، حتى تتمكن المؤسسات الرقابية من أداء دورها، وقد ظهر الخلل فى المجالس السلعية بوزارة الزراعة، والتصحيح واجب على الفور، وضبط الأسواق يأتى بسرعة التحرك، وليس انتظارا لحكم قضائي، فالمؤسسات الرقابية المستقلة منحتها المحاكم الدستورية فى أوروبا وأمريكا سلطة فرض الغرامات، وعزل المديرين، وفرض تدابير مؤقتة لمصلحة المستهلك، ومادامت مستقلة فهى قضائية، ونزيهة، وبعيدة عن المصلحة، ففى أوروبا يتكلمون الآن عن ضرورة تقسيم جوجل إلى شركتين، إحداهما متعلقة بخدمات البحث، والثانية بالتطبيقات، منعا للاحتكار، وحماية للأسواق. إن القوانين الجديدة فى العالم تفرض منح تراخيص إجبارية، لخلق حالة المنافسة، حتى عند تطبيق حرية الملكية الفكرية فى التكنولوجيا، فليس هناك احتكار للابتكارات التكنولوجية لا تؤدى إلى خلق منتج جديد، وخفض الأسعار على المستهلكين، وهذه القوانين نفسها تؤدى إلى منح تراخيص، وفق شروط عادلة، دون تمييز، لمن يرغب فى دخول الأسواق، ويتم تنفيذها على السلع التكنولوجية، والطب، والزراعة، والصناعة، وتطبيقات الحواسب، لخلق منتجات جديدة فى الأسواق. وهدف الترخيص الإجبارى هو فرض قيود على الملكية الخاصة، بحيث لا تؤدى إلى منع الآخرين من الدخول إلى الأسواق، ومعيار دخول الشخص أو خروجه من الأسواق هو الدور الاقتصادي، أو ما يقدمه من خدمات. ولعلنا، نذكر د. عبد الرزاق السنهوري، أستاذ الأساتذة المصريين، فى المادة الخامسة من القانون المدنى المصري، وهى المادة التى تفوقت على القانون الفرنسي، والخاصة بمنع إساءة استعمال الحق، إذا كان يضر بالمصلحة العامة، أو ما يسعى للإضرار بالغير، فالانتقال للسوق الحرة، لا يعنى غياب الرقابة، بل يعنى وجود رقابة، تحافظ على حرية السوق، حتى تكون مفتوحة للجميع، دون ممارسة احتكارية، تؤثر حتميا على حرية المنافسة. وقد جاءت أزمة الطماطم والبطاطس كجرس إنذار للمشرّع المصري، حتى يتحرك لحماية السوق، وحماية المستهلك من المستورد، أو حتى من المنتج المحلي، وطبعا من التاجر المحتكر.. فالأسواق الحرة هى الأسواق المنتظمة ضد الاحتكار والمحتكرين.
