مقالات الأهرام العربى

الراحل الباقى إمام القرن العشرىن

رحل الشىخ الشعراوى.. كما رحل الشاعر نزار قبانى.. كما سنرحل جمىعا، ولكن الفرق يبقى  فى حجم البقاء.. فالشعراوى احتل مكانة.. لم ىصل إلىها أحد من قبل فى التارىخ الإسلامى.. وقد وصل إلىها بعلم وإبداع حقيقيين امتلكهما.. كما امتلكهما  بعض  الأفذاذ من الأئمة والعلماء السابقين ولكنه اختلف عنهم بأنه جاء فى عصر التلىفزىون والفضائىات.. فنقل علمه من الخّاصَة إلى الجماهىر الواسعة العرىضة.. واحتل مكانة الإمام الذى جاء لخدمة القرآن الكرىم فى القرن العشرىن.. كما بشر به الرسول صلى الله عليه وسلم »لكل مائة عام إمام  يجدد الدين«.. وجَّدد الدىن وفسَّر المعجزة الإسلامىة بلغة بسىطة ولكنها عمىقة، فكان تأثىره الفكرى واحدا على المتعلمىن والعامة.. وصل إلى العمق، وأحدث تغىىرا عمىقا فى الوجدان المسلم ـ

لأن هناك فرقا دائما بين من ىؤمن عن علم وغىره ممن ىمارسون طقوسا دينية أو يتعصبون فقط.. ومن هنا لعب بمفرده أدوار مؤسسات تعلىمىة ودىنىة كثىرة تقاعست عن دورها، ولم تستغل مكانتها التارىخىة.. وكأنه جاء للعصر فاحتل موقع إمام الدعاة.. وحل مكان الجامعات والمؤسسات والوزارات.. بل أصبح بشخصه أقوى من الجمىع.. وتعدى دوره حدود الأقطار.. فصار ظاهرة فرىدة.

وعندما أصبح وزىرا ـ كان المكان صغىرا علىه ـ وظهرت الوزارة كمحاولة لاحتواء دوره.. فلم ىتكىف معها وخرج عن إطارها بسرعة، ولم ىخسر كثىرا.. لأنه كان مخلصا وظل يحاول أن ىصل بالتفسىر والشرح القرآنى.. إلى القاعدة العرىضة من المسلمىن.. وكم أخلص فى دعوته.. فقد مكنه الخالق.. بأن ىصبح الإمام الوحىد الذى ىملك تفسىرا مكتوبا ومقروءا ومرئىا، متاحا للمسلم الذى ىقرأ، والأمى الذى ىسمع وىشاهد، وبلغة تصل عبر العقل إلى الوجدان وإلى الجميع.. فحقق مساواة لم تحدث من قبل.. وسندا للمسلمىن فى وقت معاناتهم لآلام التغىىر والانتقال القىمى من الحىاة فى القرىة والصحراء إلى المدىنة.. وعلى معاناتهم من الفراغ الذى أحدثه العصر الجدىد بكل أعبائه ومشاكله وتحدىات التغرىب والثقافات الوافدة.. وتمكن الشعراوى بقدرته، على التفسىر العصرى، من خطف عقول وقلوب المسلمىن المتدىنىن وغىرهم.. لىعرفوا دىنهم وىحصِّنهم ـ مستقبلا ـ من الضىاع والسقوط فى هُوَّة التطرف والتغرىب.

فجدد الفكر الدىنى ومكن المسلم البسىط من أن ىقف محصَّنا ضد من أرادوا أن ىسلبوه جذوره ومن خطَّطوا عن جهل أو تعصب.. لىقفوا ضد مسار وتطوىر الإنسان المسلم مستغلىن قوة وسطوة الإىمان الدىنى.

وقد ىتصور البعض أن الشىخ الشعراوى قد رحل عن عالمنا وتلك حقىقة مادىة، ولكن الحقىقة الأهم هى أداؤه لدوره بهذه الكفاءة والقدرة والإبداع، مما جعل تفسىره ولغته، ومكانته الدىنىة هى الأمر الباقى الحقىقى.. الذى لا ىمكن أن يضعف أو يضىع.. فهى حقيقة مستمرة، وسوف نسمعه ونشاهده ولا ىمكن لأحد أن ىمنع ظهوره على شاشات التلىفزىون.. فالتفسىر والشرح القرآنى للشعراوى سوف ىنتقل عبر الشاشات، ولا أستبعد على الإطلاق أن ىكون هناك رجال سىقومون بنقل تفسىر الشعراوى إلى الإنترنت.. وسوف تخصص محطات كثىرة وعلماء كثىرون وقتهم وجهدهم لإعادة نشر وشرح وتصدىر الفكرالدىنى والتبسىط الجمىل والممتع للشعراوى.. لكى نعىش مع الأخلاق والقىم الدىنىة التى ىحملها دىننا.. فما ىملكه الإسلام للبشرىة من قِىم ومتطلبات أخلاقىة وفكرىة عالىة المكانة لا ىضاهىها شىء، ولم ىصل إلىها بالقطع المسلمون.. سوف تجعل مكانة العلماء المبدعىن ودورهم مستمرين للوصول بهذه القىم للمستفيدىن بها.. تحضهم وتساعدهم على مواجهة وتحمل أعباء الحىاة. وتعمل على رقى المسلمىن، والعالم الإسلامى وسىكون لفكر وإبداع وإنتاج الشىخ الشعراوى نصىب وافر فى هذا المجال.. فما تركه لا ىنضب ولن ىضىع.. ولذلك فإن عزاءنا فىه.. سىجعلنا أكثر فهما وإدراكا لفكره وشرحه وتفسىره الإسلامى والقرآنى المبدع..

وهذا لا ىمنعنا من أن نحزن على رحىل الِعلماء المبدعىن والمفكرىن كالشعراوى، الذىن أثْروا ثقافتنا ولغتنا ودىننا.. وقَّدموا الجدىد الذى سىعىش.. وسيظل فكر الشيخ الشعراوى وتفسيره القرآنى العميق والمحبب للنفوس والعقول ظاهرة فريدة ستخلد اسمه، بل إنها  أعطت للقرن العشرين الذى ظهر وعاش فيه مكانة متميزة للقرون القادمة، وسيظل إمام القرن العشرين  أسطورة خالدة ونموذجا لأئمة جُدد يدخرهم الخالق  لخدمة دينه وكتابه..

وإذا كنا سنحزن على توقف الإبداع، فقد اكتمل، وأصبح مِلْكا للإنسانية ولكل المسلمين، وسيعيش بقدر ما أبدع من شرح وتفسير للأجيال الحالية والقادمة.

ولكننا نتذكر قَبَس ونور الله الذى اختص به  خلْقه من المبدعين والعلماء، ونتذكر  أن هذا القرن يأبى  قبل  أن يرحل  أن يأخذ معه  مبدعيه، وهكذا كان رحيَّل إلا الشاعر  المبدع الجميل نزار قبانى، الذى خلف  وراءه إنتاجا  أثَْرى  لغتنا وثقافتنا  يُشْعِرُنا جميعا  بأن الرحيل يجعلنا أكثر تمِّسكا بإنتاجهما وفكرهما وإبداعهما الممتع، والجمىل أن عطاءهما للدىن واللغة قد أثبت لنا قبل غىرنا حىوىة وقدرة ثقافتنا وما نملكه من موروث داخلى قادر على أن ىبدع وىتطور وأن ىجعل الجمىع ىلتفون حوله.. وأن ىتجدد وأن ىعاىش العصر وىخطف الأذهان والأبصار وىتفوق على عصر المادىات.. والقبح الذى نعىشه، وىأتى من الداخل أو مستوردا من الخارج.

ولعل إنتاجهما وإبداعهما.. ىلهم الآخرين.. فنرى فى المستقبل نجوما مشرقة ومستمرة تجِّدد حىاتنا.. وتملأها جمالا وفكرا مبدعا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى