رؤى للمستقبل والسير فى عكس التوقعات

توقفت منذ صدور »الأهرام العربى« ـ منذ عام مضى ـ أمام سلسلة من المخاوف الحقيقية.. عكسها تحليل موضوعى للواقع الراهن.. فالموقف العربى يعانى إحباطات السنين، وينتقل من أزمة كبرى إلى اضطرابات إقليمية مستمرة.. الوضع السياسى يعيش مرحلة الميوعة، ويحاول مواجهة مظاهر الفوضى التى ضربت فى عمقه لسنوات طويلة، والأزمات متكررة بين أقطاره من ناحية والعالم الخارجى ينتهز فرصة للاستفادة من القلاقل والفوضى الداخلية.. ليأخذ مكاسب ويفرض أوضاعا مقيدة للحركة.. من ناحية أخرى وتنتقص من السيادة الوطنية والإقليمية، ليحقق بها مكاسب سياسية واقتصادية لصالح مناطق النفوذ الخارجية، ولصالح شعوبهم على حساب شعبنا العربى ومنطقتنا التى تعانى الأزمة وتشعر بمرارة الهزيمة وتفوق الآخر عليها.. هذا الوضع العام ينعكس على حركة الشعوب والحكام، ويتأثر به العامة والمثقفون، وكل الموسسات، وردود الفعل، ونغمة الحوار تختلف من موقف إلى آخر، لكنها تتفق ـ بدون اتفاق ـ على انصراف الشارع العربى عن السياسة بتفاصيلها.. اتخاذه مسارا مستقلا، بينما أصحاب القرار ومعهم شريحة من المثقفين والمهتمين بالهم العام، يأخذون مسارا آخر، ولا يجتمعان إلا ـ وإحقاقا للحقيقة ـ عند الملمات أو الأزمات الكبرى التى تهدد وجودنا نفسه، حيث تجد المسارات قد اجتمعت، واتخذت واقعا مختلفا للحفاظ على الهوية والقدرة على الاستمرار، دون تبديد للفوضى السياسية التى نعيشها..
أما الوضع الثقافى فهو الآخر لا يختلف كثيرا عن الوضع السياسى، حيث يعانى الأزمة والانفصال، ومشتت بين اهتمامات المؤسسات و الدور الحكومية الثقافية التى تشيد جدرانا ومبانى فخمة، لكنها بلا حياة، لأن من يديرونها منفصلاون وجدانيا عن الشارع العربى، وعقولهم ورغباتهم شتى بين الشرق والغرب، يرفضون واقعهم ولم يهتدوا إلى واقع جديد يتفقون عليه، ويسيرون نحوه، لذلك فمؤسساتهم متضاربة وتمارس أدوارا وأوضاعا مختلفة، وتخلق رؤى متباينة للرأى العام، ولذلك فإن تأثيرها ضعيف على صيغة الرأى العام وأزمتها مستحكمة، لأن كل منظمة تريد أن تغير الواقع العربى حسب رؤيتها المحدودة، بلا حوار حقيقى مؤثر بين المنظمات والبلدان المختلفة، للوصول إلى حقائق ثابتة يتعاملون بها جميعا، بهدف تبصير وخلق رأي عام مستنير، قد يدفع باتجاه التغيير السياسى والاجتماعى والثقافى المأمول، هذا الشعور العام بالوضع الثقافى صنع اهتزازا وفوضى مماثلة، وأعمالا كثيرة بدون عائد حقيقى أو تغيير نستطيع تلمسه حتى نبنى عليه واقعا جديدا.. كل ذلك خلق إحساسا بالإحباط الثقافى، يعادل الإحباط السياسى والخوف من المستقبل، لأن الجميع لا يرون ولا يحسون بخطوات أقدامهم إن كانت تتحرك أم ثابتة، أم تعود للوراء؟..
وإذا اتفقنا أن السياسة هى فن إدارة الشعب والموارد لتحقيق أفضل عائد للوطن وللمواطنين، فإن الثقافة هى التى تصنع المزاج وتغذى الروح، وتبنى الشخصية، وهما القطبان الأساسيان لبناء المجتمع الصحى أو البنية الأساسية التى لا غنى عنها لصناعة القوة والخروج من الأزمات، وخلق الصحة العامة، وصلاح السياسة ووضوحها وشفافيتها وقوتها تنهى الفساد والبيروقراطية وتحقق العدالة والشعور بالرضا والديمقراطية، ومعايشة الثقافة لشعوبها والتعبير عنه بوضوح تبنى الشخصية، وتصنع وتقيم الحيوية والصحة العامة والنفسية للأمة.
وإذا كانت السياسة والثقافة تعانىان أزمة وفوضى وعدم وضوح للأهداف، فالمخاوف تتزايد، ويصبح التقييم لأوضاعنا العامة صعبا، وتتحكم فيه المخاوف وليست رؤى المستقبل.
تنعكس الصورة العامة المشار إليها على طبيعة العمل الصحفى والصحف والمجلات.. فتراها غائبة فى عظم الأحيان وتجرفها تيارات عديدة أقلها الانغماس فى المحلية، أو تبنى قضايا ورؤى ضيقة، والأهم أن الرأى العام لا يمكن قياسه أو معرفة اتجاهاته، وبهذا تتم صياغة القضايا الحيوية فى ضوء هذه الأوضاع المشتتة، وإذا أضفنا إلى كل ذلك المحاذير التى تعيشها الصحافة العربية لغياب قيم الحرية بكل معانيها السياسية والفكرية عن الأفراد والمؤسسات والمجتمعات لوجدنا مخاوف عميقة أخرى.
كل ذلك تذكرته وأنا أحاول تقييم تجربة مرور عام على صدور »الأهرام العربى«.. محاولا من خلال التذكر استشراف رؤى المستقبل..
وأن أنتقل من التعميم إلى التخصيص.. حتى أستطيع أن ألتقط صورة تقييمية واضحة على خلق أنماط ومعايير لتغيير هذا الواقع والانطلاق منه إلى آفاق أرحب وأوسع.
عايشت التجربة بكل صعوبتها ومخاوفها، فى المناخ المصرى الذى يعايش الواقع العربى، وداخله عدم اطمئنان من المستقبل الواحد الذى يتحدثون عنه.. فالمصريون بطبعهم يحبون العرب بل وتجدهم عندما يتحدثون عن الأزمة الفلسطينية متعصبين أكثر من الفلسطينيين إذا تحدثوا عن ليبيا ومحاصرتها، فهم مهمومون أكثر من الليبيين، وهكذا هم فى كل قضايا العرب يتحمسون دائما، لكن غالبا تجرى الرياح بما لا يشتهون، تحمسوا لتحرير الكويت، وعند التحرير وجدوا إخوانهم يتحدثون عن الدور الأمريكى والأوروبى، ولا يذكرون الدور العربى إلا ذرا للرماد فى العين.. وهكذا عندما تحمسوا للعراق عقب حرب إيران.. فكان أولى الفئات التى دفعت الثمن، وبعد توقف القتال.. شهدوا مرحلة من أصعب الفترات سميت بـ »عودة جثث العاملين فى توابيت«، لم يعرف سبب موت أصحابها، وإذا استمرينا فى ذكر الأخطاء، والأخطاء المتبادلة لكرسنا المحلية على حساب القومية لدى المصريين،
وبالرغم من الإيمان بالمصير الواحد، لكن التجارب لديهم مخيبة للآمال.. مما خلق لديهم فى اللاشعور ـ أن اسم العربى لا يخصهم.. وأصبحوا يطالبون بالمحلية، بل والإغراق فيها هربا أو خوفا ـ لكن شعورهم وعقلهم الباطن مازال يحلم بعودة العربى قويا معافى يحب أخاه ويشاركه أزمته ويعايشه واقعا ومستقبلا.. العرب أو بعضهم مازالوا جمىعا ىتخوفون من بعضهم البعض.. العرب الثورىون متحمسون وتملكهم مشاعر رنانة والشعارات تحكم حركتهم، ولا ىرىدون سماع صوت الآخر.. فهم ىسمعون صوتهم وىرددونه طوال الوقت.. واختفت بىنهم لغة الحوار..
والآخرون ىرون فى عروبة الثورىىن لغة عفا علىها الزمن وبددت الموارد وأطاحت بمستقبل الشعوب.. فىرفضون كغىرهم الحوار المشترك.. وكل من على الساحة لا ىبحث عن لغة مشتركة.. ومع الغىاب المستمر للحوار وللمناخ الصحى كان من الطبىعى أن ىفرز الواقع متعصبىن جددا ىرىدون استمرار »التغىىب« ـ ىملأون الساحة بشعارات تتستر وراء الدىن وىلوحون بسلاح الإرهاب.. للمخالفىن.
لكل ذلك وأكثر منه ـ أستطىع أن استمر فى الحدىث عن المخاوف لكل من هو عربى.. فقد فشل العرب فى كل تجاربهم الوحدوىة أو حتى اللقاء وصراعاتهم مع الغىر فى الواقع المعاصر.. لا نرىد أن نقول إنها انتهت بهزىمتهم.. ولكن فى الحد الأدنى وبكل الواقعىة.. انتهت أو ستنتهى بغىر ما ىشتهون.. ولن ىستطىعوا تحقىق أهدافهم.
فلماذا الآن.. نعود لنذكر »الأهرام العربى«.. ونحن نعرف كل الحقائق خاصة أننى شخصىا لا تجمعنى بالحوار العربى لغة مشتركة.. فقد عملت محررا »اقتصادىا« وتحمست فى بواكىر عملى للإصلاح الاقتصادى وضرورة أن تكون لمصر علاقات وثىقة بالغرب وبالمنظمات الدولىة إذا كانت تطمع أن ىكون لها دور أو مستقبل.. ولم ىكن لى رصىد فى الدعوة للحوار العربى ـ العربى. أو المصرى ـ العربى بل وبصراحة كنت أراه خلال السنوات التى تلت السلام والمقاطعة العربىة لمصر غىر مجد.. وأن سعىنا ىجب أن ىتركز لجذب رأس المال الأجنبى والتكنولوجىا والشركات الكبرى ـ حتى نلحق بالاقتصاد العالمى فى أقصر وقت ممكن ـ
أعود للإجابة عن السؤال وأراها استشرافا للمستقبل وتقىىما موضوعىا، ولىست كما ذكرت حلما فقط ىبنى على التفاؤل والتشاؤم، ولكن على التقىىم والحساب الموضوعى.. إنه بالرغم أن الصورة العربىة صعبة دقىقة إلا أن المرحلة التى نعىشها لن تستمر وأنه سىخرج من رحم الصعوبات والمشاكل والمخاوف واقع جدىد، ىصىغ مستقبل أفضل لهذه المنطقة الحىوىة من العالم.
إننى افترض أن »تغىيب« الشعوب عن لعب دور فى السىاسة وصناعة الثقافة أصبح مستحىلا فى الواقع الراهن مع ثورة الاتصالات والإعلام المفتوح.. وأن الشعوب الآن ستلعب دور البطل.. ولىسوا السىاسىىن والمثقفىن.. ورجال الأعمال، رغم أهمىة الجمىع.. ودور البطولة للشعوب سىصنع واقعا جدىدا ومستقبلا متغىرا.. ىفرض الاهتمام بمصالح المنطقة.. وبهذا فقط.. نستطىع أن نقول إن مكانة الإنسان العربى ستعود من جدىد وسىكون هو نقطة البدء وبؤرة الاهتمام.
ولذلك خرجت »الأهرام العربى« منذ عام وسارت فى عكس التوقعات.. كانت مجلة هادئة.. بحثت عن قضاىانا الأساسىة وقدمتها بلغة عربىة جمىلة.. ورصىنة.. وصلت إلى كل العواصم.. وأصبحت حقىقة، اهتمت بالعرب وآمنت بوحدة السوق.. ارتبطت بالتغىىرات المحلىة والإقلىمىة، شاركت فى طرح رؤى الاستفادة القصوى منها وعدم الوقوع فى خطأ الاستدراج وأن نصبح فرىسة لنظام عالمى ىترصد حركاتنا وىعظم أخطاءنا.
وأقول إن المستقبل لن ىستمر معنا هادئا.. ولكننا سنغىر لغتنا.. حتى نصل إلى الجمىع برسالة الإنسان العربى.. وسنفتح الحوار مع كل العقول بلا خوف أو تردد.. وهدفنا فى البداىة والنهاىة هو استقرار وسلام.
وحوارا مفتوح مع كل التىارات العربىة.. لا نلجأ إلى النعرات القومىة.. أو الإثارة السىاسىة.. وسوف نراهن على أصعب الطرق وأكثرها خطورة..
لنصل للإنسان العربى والمسئول العربى..
وهدفنا.. خلق رأى عام متبصر لىكون طرىقنا إلى اتخاذ قرارات حكىمة تصنع مستقبلا لشعوبنا ومنطقتنا ىلىق بمكانتها وتارىخها.
وأن تكون رسل تعاون ووئام بىن الشعوب.. تحقق السلام والاستقرار اللازمىن للتنمىة والتعاون المثمر الذى ىعود فى النهاىة على الإنسان.

