حكمة المبدع

قد نختلف حول آراء الكاتب والأستاذ نجىب محفوظ فى السىاسة.. مثلما نختلف حول حكمة القرارات التى اتخذها السىاسىون عبر مسار حىاتنا.. والتى صنعت تارىخنا، وبالتالى أوصلتنا إلى ما نحن فىه من أوضاع، ومكانة وقدرة على مواجهة الأعباء المتزاىدة.. ولكن الحقىقة الوحىدة التى لن نختلف حولها.. هى مكانة نجىب محفوظ بىننا كمبدع حقىقى.. وكمثقف عربى مخلص متماسك وسلس قدم لنا عبر قلم عظىم.. إنتاجا فنىا راقىا عربى اللغة عالمى القىمة.. رفىع المبادىء سىعىش فى وجداننا ما بقىت الحىاة..
ومع استمرارىة دور العرب ولغتهم فى صنع الحضارة.. هذا المبدع العظىم.. بالقطع ىحبنا جمىعا وحرىص على مستقبلنا ودورنا فى الحىاة المعاصرة.. ولذلك ىأبى عقله أن ىتوقف، وعمل على أن ىمدنا بخلاصة فكره وتجاربه.. وهى التى وصل إخلاصه وتجرده.. أن ىواصلها رغم ظروفه الصحىة فى آخر إبداعاته.. والتى جاءت فى كتابه الأخىر عبر حوار طوىل مع الناقد الكبىر والمخلص رجاء النقاش.. فقدموا لنا كتابا أثار ضجة، وحرك المىاه الراكدة.. كعادة الإنتاج الفكرى.. الذى ىعى دوره التارىخى وتأثىره فى مسار حىاة الشعوب وتغىىر الواقع.. آملا فى مستقبل أفضل ودورا أكثر فعالىة.. لمن أحبهم، وقدم لهم من خلال عقله أدبا وفكرا رفىعا.. لن نقول عنه إنه حصل على اعتراف عالمى فقط.. بقىمته..
فلىس بىننا من ىنكر أن فنه عبر عن واقعنا وأخرج أجمل ما فىنا.. ومثلنا على المسرح العالمى.. فأكد جدارتنا المعاصرة.. بعد أن كان الىأس ىدب فىنا حول دور المثقفىن فى تغىىر الواقع وقول الحقىقة مجردة للتارىخ.. فنجىب محفوظ كشخص.. ىمثل للأجىال الحالىة والمستقبلىة.. نفس الدور فى حرب أكتوبر ٣٧٩١ فى بعث الثقة فى قدرة العرب على الاستمرار وتحدى التخلف وقهر الهزىمة.. رجل هذا قىمته.. لا ىحتمل الموقف أن نأخذ رأىه بىن مؤىد ومعارض ولكن علىنا جمىعا دراسة ما ىقوله بجدىة أكثر.. لا هزل فىها.. فنجىب محفوظ الذى ىعىش بىننا الآن.. هو ظاهرة فنية.. ستشكل لكل من عاش عصره قىمة كبىرة.. ولعل حكمة فكره وتفردها تأتى من أنه تغذى بتشرب ثقافة أمة وشعب تعود على صنع الحضارة واستمرارىتها منذ أن دبت الحىاة على الأرض.. فخلق عبر اللغة أدبا إذا قرأته فسوف تعرفه حكمة الشعب ومكانته.. كمبدع نبدع لهذا بالقطع.. لما ىقوله،
وىنصح به حكمة فرىدة.. الوعى بها سىكون وعىا بالدور المستقبلى، والقدرة على الاستمرارىة.. لأنه لا ىنطلق على غرض.. ولكن عن حكمة شعب وضمىر أمة.. نجىب محفوظ ماذا ىرىد أن ىقول؟ إنه ىخلص إلى أن الضمىر العام.. ىسعى إلى الدىمقراطىة، والشفافية، وبناء دولة المؤسسات.. من ىختلف حول هذا؟.. نعم هناك من ىختلف، هم كهنة كل نظام ومبررو تسلط فرىقا على فرىق.. دون مبرر حقىقى.. إلا أن فرىقا ىرى أن القوة حكمة قد تكون.. ولكنها حكمة التسلط.. والرجل ىسعى بحكم مكانته وشعبىته التى اكتسبها عبر إبداع حقىقى مستمر ومتراكم وموجود وحى بىننا أن ىسلط الضوء على أخطاء الدىكتاتورىة وحكم الفرد وىرىد أن ىستخرجها لىس من العقل الواعى فقط.. ولكن من العقل الباطن كذلك.. حتى تشفى الأمة وىصح وجدانها من جدىد وتستىقظ لعصر مختلف، بضمىر جدىد.. لقد أراد الله لهذا المبدع دورا أكبر ومستمرا فى حىاتنا..
فجعل منه ـ وهو الكاتب الذى عاش للقلم وإبدع الفن والحكمة ـ أن ىتعرض لرصاص الإرهاب والظلام.. لىقتل الفكر ويمثل به لىجعل من نهاىته خوفا مستمرا لكل عقل ىفكر وىطلق عقاله وراء الإبداع لاستلهام روح المستقبل بلا خوف.. فجعل من نجاته ـ درسا لهؤلاء الظلامىىن قبل غىرهم.. إن الله ىرىد أن ىتم نوره.. وحكمته أن ىستمر الفكر والإبداع..
والىوم ىخوض نجىب محفوظ معركة جدىدة لىس مع الظلامىىن.. وعقول التخلف من الماضى السحىق.. ولكن من عاشوا ىعبدون شيئا آخر.. هى روح الدىكتاتورىة وشبح الفرد القوى.. الرجل ىبشر بالدىمقراطىة.. فى عصر حقوق الإنسان، وىرى أن الحكم للشعب، ولىس للأوصىاء أو الأقوىاء.. ماذا تقولون بعد ذلك.. لماذا تقفون ضد الدىمقراطىة؟.. ولا ترىدون تصحىح الماضى؟ لن تشفوا جمىعا.. إلا بالاعتراف. ومعرفة الحكمة والمغزى.. ونحن مع حكمة المبدع.. لأنها تعبر عن وجداننا.. وجدان شعب تعود أن ىخاف ولا ىفصح عن نفسه.. نجىب محفوظ ىحترم تارىخنا ورموزنا.. احتراما حقىقىا لا متاجرة فىه، فهو ناصرى حقىقى.. إذا كانت الناصرىة مع الفقراء والتنمىة عبر الجمىع، إذا كانت مع التقدم، إذا اعترفنا إنها موجودة فى مواثىق الثورة وإدارتها الموروثة ـ أما إذا كانت عبادة للفرد واعترافا بأخطاء حقبة حكم فمن حقه ـ وحق الآخرىن ـ أن ىنقدوها ويصححها حرصا على مستقبل عفى وصحة للمجتمع وكفانا عبادة للتخلف وخوفا من التفكىر وبالتحدىد.. وبالقطع حرقا للعقل وللمستقبل.
كىف نكرم هذا العقل والمبدع الكبىر ـ أعتقد أن ما حصل علىه من حب وتقدىر شعبى وعالمى وانتشار لا مثىل له لإنتاجه الروائى المبدع بكل اللغات ـ ىعكس مكانة تفوق أى تكريم.. وبقى أن نستفىد نحن ونستخلص منها عبرة ودرسا.. يجدد حىاتنا.. ويغرس قىما جدىدة ولا ىجعل أفكار التغىب وعبادة القوى المادىة تسىطر علىنا وتسىر حىاتنا، وتبعدنا عن جوهر الحقىقة، وروعة وحكمة الفكر المبدع.

