حركة إصلاحية.. لا تيارات متطرفة أو ركود

نعيش بين نقيضين: النقيض الأول هو عملية متطرفة في الرياض, تقودها العقول نفسها التي لم تدرك أنها خربت بلادها, ودمرت المنطقة وأشعلت فيها ليس حربا واحدة فقط, بل حروبا عبثية, فأضعفت وحجمت أي فكرة تطرح سواء في الشرق أم الغرب.
أما النقيض الثاني فهو خليجي, إذ أن وزيرا عربيا لا يعي ما يفعله أو ما يقوله, يذهب بلا مقدمات أو مبررات أو هدف لمقابلة وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم في باريس, ليخرج من اللقاء بعد تصويره أمام عدسات التليفزيون, فلا يجد ما يقوله إلا البديهيات, من أن بلاده منفتحة علي جميع البلاد بما فيها إسرائيل. وحتي يفهم هذا الوزير أو غيره نقول إن ما يقوم به لا يخدمه أو يحقق مصالح بلاده, وإنما يضعف ويقلل من أهمية العرب جميعا, ومن ثم قدرتهم علي التأثير, فلا يعرفون بدقة ما بين أيديهم, فيبددونه بدون هدف أو حتي في الحد الأدني تقسيم للأدوار, وصولا إلي الأفضل بما يحقق مصالح الفلسطينيين, ويساند في دفع إسرائيل إلي الأمام, لتقلل من غلواء اليمين المتطرف فيها, الذي يستأسد الآن علي الفلسطينيين, ويرفض التعامل باحترام مع ما يطرح من أفكار ومبادرات سلمية دولية, لأنه يري أن العقل العربي ضائع ومستسلم لمصيره, وأنه سلم مقاديره للمتطرفين من كل الأجنحة, فنجد في فلسطين والعراق عجزا كاملا عن التعامل مع صعوبات عديدة تواجه الشعبين, ومحاولة حلها لتحقيق مصالحهما, والتخلص من العدوان والاحتلال, وصولا إلي التحرير فلسطينيا, وتقرير المصير عراقيا.
توقفت أمام هذين الحدثين, كدلالة علي ما يجري عربيا, لكشف نوعية إدراكنا, وضعف رد الفعل لدينا, وقصور فهمنا عما يحدث إقليميا, ولن أتجاوز إذا قلت إننا نكاد نسلم بعجز وشلل كاملين لمواجهة الأزمة المستحكمة علي صعيد المنطقة العربية إقليميا وإنسانيا, وعلي العرب عامة, والمسلمين خاصة.
وما أعنيه هو أننا منذ أحداث11 سبتمبر2001 في الولايات المتحدة الأمريكية, وإعلان الحرب علي كابول وتنظيم القاعدة في أفغانستان, من جانب الولايات المتحدة الأمريكية, ومعها المجتمع الدولي, ونحن لم نزل نراوح في مكاننا, فإذا كان الأمريكيون ذهبوا إلي حرب الإرهاب هادفين من ورائها إلي طرد طالبان في أفغانستان وتفكيك تنظيم القاعدة, فإننا في بلادنا كنا في حاجة إلي حركة أكثر ابتكارا, ليست عسكرية أو أمنية, بل ثقافية وسياسية ودينية, حتي لا تهرب القاعدة وطالبان من الحرب الدائرة هناك إلي منطقتنا, لتستغل حالة عربية طبيعية ضد الحرب في فلسطين والعراق, ليبدو العرب وكأنهم الأرض الخصبة لاحتضان الفكر المتطرف.
ونحن نعرف أننا الذين سوف نصطلي بنيرانهم وجهلهم وتعصبهم المقيت, فقد علمتنا الأديان والقيم أن الكراهية والتعصب والتطرف بكل أشكاله, حتي ولو كان رد فعل طبيعيا لتعصب وظلم حقيقيين يقعان علينا من الآخر, فإن سهمها لا يصيب الآخر, لكنه يصيب من ابتلي بهم, هم من أهلهم قبل غيرهم. ولذلك, ورغم فهمنا لمخاطر المتطرفين والمتعصبين والجهلة الدينيين, فإننا لم نر حركة ثقافية أو دينية عربية واعية تستأصل هذا المرض اللعين من بين ظهرانينا, بل برر البعض منا الأمر بأن التطرف والمتطرفين ليسوا حكرا علينا, لكنهم منتشرون في العالم, وكل الأديان, ونسينا أننا لسنا مسئولين عن العالم, إلا بقدر مسئوليتنا عن أنفسنا, وإننا مطالبون بحركة سياسية وفكرية ودينية تقف بحدة وتواجه بحسم المتطرفين بكل أشكالهم ودعاتهم من كل المنابر, وتجرم فعلهم, لأن حجم الأذي والجريمة أكبر مما يتخيل المتسامحون معهم, فهم يكتبون ويخطبون, ويدعون إلي جريمة الكراهية والقتل بلا توقف حتي جذبوا الكثيرين من ضعاف النفوس والجهلة والسطحيين إلي صفوفهم, ونحن نتفرج ونسمع, مع أن جريمة الحض وتشجيع القتل والإرهاب أخطر من ممارستها بالفعل, فالذين يستغلون المراهقين وضعاف العقول وينظمونهم أو يمولونهم أو يدفعونهم للقتل أو الانتحار لاعتبارات سياسية أو دينية, هم الأكثر جرما, واستفادة من الجريمة, لأنه مهما كانت القطيعة السياسية أو الاعتبار الديني أو الظلم الذي يقع علينا في قضايانا الكبري, فلا مجال لمواجهة كل ذلك إلا بوسائل سياسية ودبلوماسية شريفة, حتي ولو تأخر مردودها, فهذا هو الأفضل من الأساليب الإرهابية, فأضرار هذه الوسائل ستكون جسيمة علينا, سواء في الحاضر أو المستقبل, ومن ثم سيكون عائدها علي قضايانا ليس محدودا فقط, بل غير مؤثر, وقد يتحول إلي نتائج عكس ما نريد ونطمح لحل مشكلاتنا.
يجب أن نعترف بأن نخبتنا وسياسيينا مازالوا غير قادرين علي مواجهة التطرف والإرهاب بأساليب مبتكرة ومتنوعة, تفرض دولة القانون والمساواة والقدوة وتدفع قوي المجتمع ككل, نحو التصحيح والتنمية والتطور حتي تنبذ الأغلبية والقوي الشعبية مثل هذه الأساليب حتي في القول, وليس الواقع الفعلي وحده, فالتطرف والحماقة في القول والفكر هو مقدمة للتطرف الفعلي, لأن المثقف والسياسي أو الخطيب أو الداعية, الذي لا يعرف ما يقول تصل فكرته إلي البسطاء قتلا وحربا وجريمة وإرهابا.
كنت أتصور ومازلت أن كارثة العراق والحرب علي الإرهاب, قادرتان علي إفراز نخبة فكرية, تدفع الأغلبية لنبذ التطرف وتحجيمه علي كل صعيد, والتعامل مع المتطرفين في مجتمعاتنا وفي إسرائيل وأمريكا بلغة واحدة تبلور فكرا واضحا لمجموعة سياسية وثقافية متسقة مع نفسها, تبرز قدرتنا علي التعاون مع العراقيين في الداخل, لتكوين مؤسساتهم وتفعيل حوارهم معا, وعدم تركهم وحدهم يواجهون تداعيات ما بعد الحرب, كما تركناهم في الماضي تحت سيطرة حكم صدام حسين المجحف, الذي قتل نصف مليون عراقي في مقابر جماعية دون أن يخبر ذويهم, بعد أن ترك العراق والناس فيه مخربين ماليا ونفسيا لسنوات طويلة, وكان ذلك بحجة عدم التدخل في الشأن الداخلي رغم خطورته علي مستقبلنا جميعا, وكانت النتيجة هي احتلالا لم يهدد العراق وحده, بل هدد العرب والمنطقة كلها.
كما أن هذه النخبة السياسية والثقافية يجب أيضا ألا تترك الفلسطينيين في منظمات متناحرة, وتنافس فردي مقيت, يقتل الشعب والقضية, فيقع الفلسطينيون فريسة سهلة ليمين إسرائيلي لا يريد خيرا لقضيتهم, أو لا يريد أن يري دولتهم, بل إنني أكاد أري شارون وجماعته لا يرغبان في السلام والاستقرار الإقليمي الحقيقي, ويتجهان لاستخدام القوة بعد أن يدفعا إلي إفشال خريطة الطريق, وإن كنت أتصور أنهما لن يتحملا أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي, أن يكونا مسئولين عن إفشال خطة عالمية لإحلال السلام الإقليمي في الشرق الأوسط, لكنهما قد يستخدمان كل الطرق والوسائل لدفع بعض التيارات المختلفة عربيا وفلسطينيا, لإفشالها بالاندفاع في الإرهاب والتطرف, وذلك لإظهارنا جميعا في مظهر المنتحرين سياسيا, وكأننا لا نملك قدرا ولو ضئيلا من السياسة أو الكياسة.
أعترف بأن المواجهة ستكون صعبة, والقضية أكبر وما نلاقيه قاس وخطير, لكنني لا أري أمامي مدركين لحجم ما يواجهون, بل أري هناك من يهونون أو يتواطأون أو يبررون ويدفعون بالخطر بعيدا عن دائرتهم الضيقة, وكأنهم بذلك قد نجوا, وتركوا غيرهم متورطين.
فهل أجد حركة إصلاحية سياسية من المحيط إلي الخليج يقودها عقلاء وحكماء, وليس مدعو بطولة أو متطرفون, وهما وجها العملة الرديئة, الذين أفرزتهم أعوام من الضعف وعدم القدرة علي المواجهة, وهل أجد لغة وشكلا جديدين لمضمون خطاب حقيقي لا يقال إلا لوجه الله والضمير؟!
