العاصمة بين الأمس واليوم والغد..

استطعت في خلال جولة في القاهرة ـ صاحبت فيها محافظها عبد الرحيم شحاتة خلال الاحتفال باعياد القاهرة القومية ـ ان اتعرف عن قرب علي ما يحدث من تحولات كبيرة قد تغير وجهها وتعيد البريق اليها وتجدد صورتها الراهنة.
ولأننا نعيش الآن في عاصمة مكثفة محاطة بشبكة من العشوائيات, ظلت لسنوات بوتقة تمتص يوميا مئات أو آلاف المقبلين للعاصمة من الدلتا والصعيد, والمهاجرين الهاربين من حياة القرية الصعبة الي المدينة وبريقها بحثا عن حياة افضل أو فرصة للعمل أو هروبا من الفقر, ونقص الاستثمارات التي ظل دائما سمة الحياة في مصر.. فالقاهرة واضواؤها وسكانها يحصلون علي نصيب اكبر وغير عادل من ميزانية البلاد, فتحولت هذه الاموال التي حرمت منها. بقية الاقاليم الي القاهرة لتضيع في هذا الزحام بدلا من الانتعاش المفروض, وهكذا الحياة, عندما يغيب التوازن والتخطيط السليم, وتنعدم العدالة بين الناس والاقاليم فهناك من يموت من التخمة.. وهناك من يموت من الفقر ونقص الدماء.
فالقاهرةالتي انشئت علي موازييك من الحضارات القديمة والمعاصرة.. عاصمة حديثة بأحيائها الأوروبية في وسط المدينة الفريد بطرازه المعمارية الفرنسية والانجليزية والسويسرية والايطالية القديمة وبأحيائها المستمدة من الحضارتين الاسلامية والقبطية اللتين طعمتا بالحضارات المعاصرة, فجعلتها ذات نكهة فريدة لا تطاولها عاصمة أخري في عالمنا المعاصر.
هذه العاصمة بدلا من أن تصدر جمالها الي مدن وقري مصر كلها تنقل نظامها ودقة مرورها وجمال المعمار فيها والنظام والازياء, والمحلات الراقية والبوتيكات الجميلة حتي الاكشاك المنظمة, تلك المدينة كانت علي العكس من ذلك, فقد استوردت كل القبح والعشوائيات من الريف والمدن.
والاقاليم عبر القادمين, الذين حولوها الي عاصمة للفوضي والقبح, فإذا بالقاهرة تشيخ, وكان لنقص بناء المساكن وعدم تنظميها دور آخر حولها الي مدينة للعشش والعشوائيات, بل اصبحت مقابرها القديمة الجميلة احياء سكنية حقيرة وعشوائية وبؤرة للفوضي والفساد والجريمة.. بشكل عبر عن الخلل الاداري, وغياب سلطة الدولة, وعكس ضعف المحليات وانهيار البلديات بل وفسادها الذي كرس السلبيات وتركت الناس يبنون ويتحركون في وشوارع ومبان واحياء تحمل كل مساوئ عدم التخطيط وغياب الرؤية والجمال.. واصبحت احياؤنا السكنية الجميلة, محلات وورشا مقلقة للراحة, والضوضاء وكل الأصوات تنبعث في وقت واحد, بشكل مثير يجعل الحياة في القاهرة صعبة علي جميع ابنائها, بل مخيفا للمستقبل..
القاهرة عاصمتنا الجميلة, التي كنا نتغزل في احيائها القديمة ونيلها الخلاب, اصبحنا نراها في الصور أو الليل فقط أو من شباك طائرة او نرقبها من مبني عال, حتي نستطيع ان نتطلع الي جمالها, وطالما سرح خيالنا وتطلعنا الي ان نشهد ان تغييرا جوهريا مستقبليا ينقذ القاهرة مما آلت اليه من شيخوخة وضعف..
وكل من نلتقي به يتساءل متي تنقذون القاهرة ؟!
بل يسأل متي تنقلون عاصمة مصر من القاهرة.. حتي يتغير وجه بلادكم, وتكون لكم عاصمة جميلة نظيفة منظمة يسير الناس فيها بلا اخطاء ويحافظون علي قدسية شوارعها ويحترمون قوانين البناء والنظام واولها حركة المرور, وكل مبانيها جميلة حديثة.. حتي تتخلص شوارعها من الجراجات او المطبات الصناعية القبيحة ولا تسير فيها كل المركبات حتي الدواب والحمير, ولا يسير الناس في نهر الطريق ومعهم التروسيكلات والدراجات وسيارات الكارو والاتوبيسات, وتاكسي القاهرة القبيح, وسيارات السرفيس رمز للفوضي والعشوائية والجهل..
وسط كل هذه الصور المؤلمة والمخيفة لمستقبل القاهرة, الذي لا يضيع من مخيلة كل قاهري يتحرك يوميا في شوارعها ويحيا مبانيها..
, بل كانت لي فرصة ان اقترب في اليوم الأخير لاحتفالات القاهرة بعيدها القومي ـ6 الي20 يوليو الحالي مع محافظها النشيط عبد الرحيم شحاتة في جولة وكانت في منطقة القطامية.. هذه المنطقة الجديدة التي اعاد وجودها للحياة.. الطريق الدائري.. الذي اصبح يحيط بالعاصمة لأول مرة في تاريخها كبقية عواصم المدن تملك شبكة طرق تضعها في مفترق مدن مصر.. فهي ملتقي طريق الي الصعيد.. وطريق آخر الي مدن القناة علي البحرين الأبيض والاحمر. وكل هذه الطرق تمر بالطرق التي تخدم الطرق الزراعية والصحراوية للإسكندرية, والوجه البحري, وهي شبكة فريدة من المواصلات التي قربت البعيد.. وسمحت لوسائل المواصلات بالحركة الحرة.., دون تحمل عبء دخول المدينة واكتظاظها المروري, في هذه المنطقة شاركت في جولة المحافظ, ولم تكن جولته الاولي.. بل كات الجولة الثانية عشرة,, فقد كان يتحرك في منطقة وصل اتساعها الي1200 فدان.. تمثل توسعا عمرانيا حديثا للمدينة.. وهذا التوسع ليس من الاراضي الزراعية كما تصورت سابقا مثل الهرم والمهندسين, واراضي المرج والسواح, التي كانت تمثل اجود الاراضي الزراعية, تحولت الي مبان خراسانية حرمت القاهرة من الخضرة والاهم حرمتها من الطعام الطازج والصحي.. هذه المرة..
لم يكن التوسع زراعيا بل كان صحراويا, وليست أرضا منبسطة بل كانت جبالا, تشهد استثمارات سكنية, وأحياء جميلة منظمة ودقيقة, وكان المشروع الأول سكني( سما القاهرة) باستثمارات115 مليون جنيه والثاني اسكاني زهرة الزهراء(500 مليون جنيه) والثالث تنمية عمرانية(378 مليون جنيه) والرابع مجمع مدارس(6.5 مليون جنيه) والاهم منطقة جبلية.. تستقطب ورش القاهرة المقلقة للراحة.. والتي تدمر آثار العاصمة الاسلامية والفاطمية مثل مصر القديمة والسيدة زينب والحسين, والتي ستنتقل إلي هذه المنطقة الجديدة, بورش كبيرة تستقطب عمالة إضافية, وتهز الكثافة السكنية والاكتظاظ القاهري الذي لامثيل له, لعله يأتي يوم, يعود فيه الجمال والحيوية لوجه القاهرة الراهن.
سألت المحافظ, هل هذه كل استثمارات القاهرة.؟ فقال في هذا العام تفقدت استثمارات ومشروعات عبر14 يوما تصل تكلفتها الاجمالية إلي مليار جنيه في8 محاور( البنية الاساسية ـ القاهرة مدينة نظيفة ـ الحفاظ علي نهر النيل ـ القاهرة التاريخية ـ التنمية الحضرية ـ هندسة وتخطيط المرور ـ التنمية البشرية ـ الاستثمار)..
وكانت احتفالاتنا في هذا العام تسير علي هذاالمنهج, وما ورثناه صعب تغييره, ولكن بالعمل والخطة الجادة نحقق نتائج كبيرة. بل مذهلة ولا أخفيكم أنني لاحظت خلال الزيارة أن النهضة السكنية في القاهرة سوف تؤدي إلي تغيير كبير في أزمة الاسكان وانخفاض أسعار المساكن.. وعودة إلي مساكن للإيجار وبأسعار مناسبة وهو مستقبل القاهرة لأن الاسعار كلها في المساكن الجديدة خفضت أسعار المساكن إلي مادون500 جنيه للمتر للإسكان فوق المتوسط الذي كان يصل إلي1500 جنيه للمتر.
وجميعه تمليك.. والمستقبل للإسكان الجيد والمتميز للشباب أصبح أكيدا ومضمونا مع زيادة الاستثمارات وعودة قانون الرهن العقاري.. وقانون الايجار الجديد, كل ذلك فتح المجال إلي عودة قوية للاستثمارات السكنية, سيكون لها تأثير علي المباني القديمة والعشش والعشوائيات التي تملأ شوارع القاهرة في المستقبل, والتي من المتوقع إذا استمرت حركة الرواج الاسكاني فإنها تتقلص بل تتلاشي وأن نري قاهرة جديدة, ومساكن حديثة, خاصة مع سياسة التغيير التي ينتهجها المحافظ الحالي للأحياء القديمة كعشش الترجمان وخلف ماسبيرو ومبني وزارة الخارجية وهدف إقامة منطقة وسط مدينة جديدة للقاهرة يتناسب مع تطلعها وبعث الروح فيها للمستقبل.
وإذا نظرنا إلي منطقة مثالية هي( ابوالعلا وعشش الترجمان وكالة البلح الراهنة وحكر أبودومة والسبتية) إذا قامت شركة قوية تشارك فيها جهات عديدة تشتري هذه الأرض وتعوض أصحابها بثمن حقيقي, ثم تخطط لإقامة منطقة وسط مدينة جديدة للقاهرة ـ ستكون نقطة ضوء تنقذنا من الزحام وتثبت للعالم ولنا جميعا أننا قادرون علي أن نأخذ أمورنا بجدية وننقذ مدينتنا الجميلة والقديمة مما آلت اليه من زحام وشيخوخة وترييف لايليق بعاصمة الشرق الأوسط. القاهرة العتيدة.
وهذا مشروع كبير يشابه مشروع القاهرة الإسلامية, والذي شاهدنا منه نقاط ضوء في تطوير وإعادة أحياء منطقة عمرو بن العاص وظهور مجمع الأديان الذي ظهر في هذه المنطقة ليؤكد سماحة المصريين وقدرتهم علي الابداع والتغيير والتطوير والتحديث.
وهكذا يستمر التحديث في القاهرة الفاطمية, ونقطة الضوء الأخري كانت حول بيتي السحيمي والهراوي, ونفق القاهرة الذي يربط صلاح سالم بوسط المدينة, ويحول السيارات للمرور تحت الأرض ليعطي إشارة التغيير والتطوير لهذه المنطقة الحيوية إن ما يجري في القاهرة, من تطوير للعشوائيات حول الاطراف ومن تغيير في القلب, ومد شبكات المواصلات والطرق والبنية الأساسية, يعكس إرادة حديدية.. للتغيير ولكن ذلك يحتاج إلي أن تصاحبه مشاركة جماهيرية من الناس في تغيير سلوكياتها واتجاهاتها, ليتوازي مع يحدث, والاستثمارات التي تضخ من تغيير نظرة المواطن للحياة في القاهرة والأهم من كل ذلك أن تطوير بقية الأقاليم والمحافظات وضخ الاستثمارات في شرايين كل أنحاء مصر سيوقف الهجرة الريفية التي تقتل القاهرة من الزحام.
والتي جعلت ثلث سكان مصر يتكدسون في العاصمة فيحولونها من عاصمة للجمال والنظام إلي رمز للفوضي والتلوث.
أصبح هذا لا يليق أو يتماشي مع التحديث والنمو الذي تشهده مصر, ويجب أن تكون القاهرة رمزا حيا للتطور والنمو, ويكفينا أننا رغم ظروفنا الصعبة, حافظنا علي القاهرة وبنينا فيها الكباري وشيدنا مترو الانفاق الأول في منطقتنا ولكن تأخرنا الكبير ـ يفرض علينا, مزيدا من العمل والحزم ومواجهة التسيب والفوضي بكل أشكالها, ويجب أن يتعاون المواطنون مع الحكومة بكل أجهزتها لإنقاذ وجه القاهرة لأن في ذلك إنقاذا لسمعتنا جميعا وتأكيدا لقدرتنا علي النمو والتحديث والتغيير فالقاهرة هي الرمز, ويجب أن تستمر كذلك.
