باتريك سيل الغائب فى رسالة

أشعر باحترام للدور الصحفى عندما يكون مؤثرا فى صعيد الأحداث السياسية والتطورات المتلاحقة، فالصحافة والإعلام فى عصرنا الراهن تصنع الأحداث وتحركها، ولم يعد دورها مقصورا على إعلام القراء، أو حشد الرأى العام مع أو ضد حدث أو موقف ما، ويحضرنى الآن الدور الذى لعبه الصحفى البريطانى باتريك سيل فى التقريب بين الموقفين السورى والإسرائيلى، عندما تبادل كلمات التقدير بين الرئيس الأسد، وبين رئيس الوزراء الإسرائيلى باراك فى يونيو الماضى، عقب سقوط نيتانياهو، وظهور باراك على المسرح السياسى، التى كان لها تأثيرها على صعيد عودة الطرفين إلى مائدة التفاوض، بالإضافة إلى متغيرات إقليمية كثيرة، ثم حاول باتريك سيل عندما فشلت مباحثات جينيف بين كلينتون والأسد، أن يقدم مقترحات عملية لتضييق الفجوة بين الطرفين.
وفى إطار لعبته الصحفية التى تجاوزت دورها، لتصبح دبلوماسية مؤثرة تقودها الصحافة.
أعتقد، بل أجزم أنها أضافت إلى الصحفى البريطانى ـ مكانة شرق أوسطية ـ ذكرتنا بأدوار صحفية عديدة لعبها صحفيون عظام فى تاريخ الصحافة العربية.
ولعل موقع »سيل« المميز والفريد لدى الرئيس حافظ الأسد، وفى نفس الوقت موقعه فى إسرائيل، مكنه من لعب هذا الدور الكبير، وتلك قضية أخرى، لكن الأهم هنا هو رسالة سيل الأخيرة، للرئيس »الأسد« ولرئيس الوزراء باراك، فهذه الرسالة كشفت عن قدرة الصحفى على مواصلة دوره وفاعليته، رغم الإحباط الذى قد يشعر به نتيجة التطورات على المسار السورى ـ الإسرائيلى، الذى تجمد فعلا، رغم إعلان إسرائيل عن انسحابها من جنوب لبنان قبل يوليو القادم، والانسحاب رغم أهميته قبل الاتفاق مع سوريا، سوف يؤثر على استقرار المنطقة ومستقبلها، لكن الغائب فى رسالة »سيل« أنها تسير وراء الموقف الأمريكى الذى يرى أن الكرة فى الملعب السورى، فى حين أن سوريا هى التى تنتظر الرد الإسرائيلى، فقد حاول الكاتب البريطانى بذكاء شديد، اللعب على التوازن مطالبا بموقف إيجابى من الطرفين، مبرزا العقدة الإسرائيلية، بسبب تجربتهم المأساوية مع أوروبا، وأن صنع السلام مخاطرة وأنهم فى حاجة إلى »التطمين« الذى يجعل المخاطرة مقبولة وأنهم مازالوا يترقبون نيات سوريا السلمية على المدى البعيد، موضحا أن الإسرائيليين يحتاجون إلى الاطمئنان العميق بأن سوريا لن تشكل خطرا عليهم فى المستقبل، ورسالة »سيل« إلى حافظ الأسد تطلب إشارات للتطمين وتغييرا للهجة وسائل الإعلام وسلوك المفاوضين.
ونتصور أن طلبات الكاتب البريطانى كلها مقبولة ولكنها بالقطع ليست النقاط، التى عقدت المسار التفاوضى بين سوريا وإسرائيل لأن هذه الإشارات معلنة من سوريا ورئيسها بالفعل، عندما قبلت الاشتراك فى قمة مدريد 1991 بل إن العرب جميعا قبلوا بالسلام فى آخر قمة عربية عقدت فى القاهرة 1996.
وإذا نظرنا إلى الوضع الإسرائيلى الإقليمى، فهى ليست دولة قوية فقط، لكنها الدولة الشرق أوسطية الوحيدة المدججة بالسلاح، وهى الدولة الوحيدة التى تمتلك الأسلحة النووية، كما أن الوضع الإسرائيلى ـ العربى الراهن لا يمكن مقارنته بالوضع مع أوروبا، فالعرب خاصة الفلسطينيين هم الذين يقع عليهم الاضطهاد والتمييز العنصرى الإسرائيلى، هم المطرودون فى المخيمات، وهم الفقراء، بل هم الذين يسعون إلى العمل بنظام السخرة فى إسرائيل نظرا للظروف القاسية التى تعيشها المنطقة التى فرضتها إسرائيل عليهم وعلينا جميعا.
الوضع فى الشرق الأوسط يظهر تماما أن إسرائيل هى التى تحاصر العرب، فهى الدولة التى ترفض التعايش السلمى بين شعوبها، رغم أن العرب أصحاب المنطقة قبلوا بالحل التاريخى، وطلبوا التعايش وسعوا إلى السلام الذى ترفضه الآن إسرائيل، وتفتح المجال للفوضى والإرهاب فى المنطقة، العالم كله يعرف الآن، بعد التوصل إلى السلام مع مصر والأردن، وبدء المباحثات الفلسطينية والسورية مع إسرائيل، أنه لا مجال للصراع العسكرى بين الجيوش العربية وإسرائيل، وأن محور الصراع انتقل إلى الشعوب.
والشعوب لن تقبل بسلام مجحف، لا يحقق الحد الأدنى المقبول، والحد الأدنى العربى أصبح معروفا، وهو استرداد الأرض التى احتلت بعد حرب 1967 بالكامل، فى الجولان وجنوب لبنان، والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة، هذا هو الحد الأدنى، وإسرائيل تعرف الثمن، الذى خسرناه عربيا، فقد سرقت أخصب الأراضى، وسرقت الدولة الفلسطينية بالكامل التى يعيش عليها الآن يهود الشتات، الذين استوردوا من كل أنحاء الأرض، ليعيشوا فى أرض فلسطين تحت مسمى »دولة إسرائيل«.
إسرائيل تعرف أن استكمال حلقات السلام سوف يعطيها قبولا عربيا للتعايش وبدء التعاون بين شعبها والشعوب العربية، ويضع حدا لصراع إقليمى استنزف طاقة المنطقة 50 عاما، وجمد الحاضر ورهن المستقبل.
لكن ماذا تفعل إسرائيل الآن؟ لقد أعماها غرور القوة عن رؤية الحقيقة، ولا تحتاج إلى مزيد من التطمين، فهى الآن تتصور أن القوة أهم لها من السلام، وتخشى السلام الحقيقى، الذى قد يفجرها من الداخل، فهى لم تصل بعد إلى مرحلة التجانس بين شعوبها المشتتة وطوائفها المتصارعة، وتخفى صراعها الداخلى بالتشبث بالصراع الخارجى تارة، وتارة أخرى باللعب على المسارات، وتأجيج الصراعات الإقليمية، فالبحث عن مكامن الخلافات وتفجيرها، أصبح رغبة إسرائيلية جامحة للتعايش.
كما أن الكاتب البريطانى »سيل« ـ صديق العرب والإسرائيليين معا ـ نسى فى خطابه إلى باراك، الذى ركز فيه على وديعة رابين الموجودة فى الجيب الأمريكى، أن باراك لا يقدم هدية للسوريين، لكنه يرد الحقوق ـ التى اعترف بها سلفه ورئيسه رابين ـ مقابل سلام حقيقى وتعايش إقليمى، لكن بصراحة أعترف بأن الرئيس الأسد التقى مع الإسرائيليين فى وسط الطريق فى صفقة السلام ـ الماء والأمن والتطبيع وجداول الانسحاب ـ لكن الأرض ليست مطروحة للتفاوض.
اللغائب فى رسالة »باتريك سيل« إلى باراك والإسرائيليين هو أن يكشف لهم بوضوح أن قبول العرب بالسلام معهم أعطاهم %75 من أراضى الدولة الفلسطينية فى حالة تسليمهم بحقوق الفلسطينيين فى الضفة والقطاع بلا مستوطنات، وسمح لكيان غريب ما كان من الممكن أن يقبل أحد بوجوده فى منطقتنا وأن نتعامل معه، ونفتح مطاراتنا لاستقبال شعبه، مقابل أن نحصل على حقوقنا فى أراض اغتصبت فى 1967، وهى ما أسماها الكاتب الفرصة التى يقدمها التاريخ للدولة المغتصبة، وتلك حقيقة، قدمها التاريخ وظروف المنطقة والعالم، وتَغَيُّر أشكال الصراع، لكن يبدو أن إسرائيل ستنجرف إلى المصير الذى نعرفه جيدا، ولن تُقَبِّل الأيدى الممدودة بالسلام حتى تفتح الباب إلى حرب عصابات وإرهاب ورفض عربى شامل لوجودها، سيجعلها هذه المرة لا تتعامل مع جيوش نظامية، سهل لها بالدعم الأمريكى أن تهزمها أو تحاصرها، لكنها سوف تتعامل مع الشعوب، والشعوب لا تُهزم بالجيوش، حتى لو كانت أمريكية وإسرائيلية ومدججة بالأسلحة النووية، وأحدث فنون التكنولوجيا الغربية المتطورة.
وهو مصير لا نريده لمنطقتنا، حتى لو كان ثمنه التسليم بوجود إسرائيل..
لكن ما باليد حيلة، قدمنا نحن العرب كل شىء من أجل السلام ولكن المغتصب يفتح الباب للإرهاب والفوضى وحروب العصابات، لأنه لا يسلم بالحد الأدنى الذى قبلناه جميعا قبل، أن نبدأ التفاوض أو طريق السلام، والآن يتهرب من التزاماته، ولا يريد أن يدفع ثمن السلام.

