طريقنا إلى التطور

نظلم أنفسنا إذا حمَّلنا الشعوب مسئولية تخلف العرب، بينما تقدم الآخرون، سواء أكان الغرب أم آسيا، فالشعوب رغم تخلصها من الاستعمار، وإقامة الدولة القومية واستقرارها، تلك حصيلة ما تحقق لها فى القرن العشرين، هذه الشعوب مازالت مهمشة وبعيدة عن المشاركة فى المسئولية أو لعب دور مؤثر ـ إن لم أقل ثانويا ـ فقد تسلط على القرار فيها ليس نخبة مميزة أفرزها الشعب أو هى ممثلة له، أو مؤسسات حقيقية وفعالة، لكن مجموعات من الأفراد أو مؤسسة واحدة، أعفت الجميع من المسئولية، بل حتى التفكير، وجمدت الأمور، وأوقفت البلاد فى طابور الانتظار، حتى تحل المشاكل والصعوبات التى تواجهها ـ حسب رؤيتها المنفردة ـ داخل المجتمع بكل فعالياته، وتعدد آرائه وحيويته وأدخلته إلى ثلاجة كبيرة حتى تجمدت أطرافه، وكان لطول الوقت والاستبعاد أثرهما على الشعوب.. ففقدت الحيوية. وانشغلت فى التصفيق أو فى مباريات الكرة، والأخطر هو الانشغال بمباريات المصارعة الفكرية، وزرع الفتن والدسائس بين أطراف الأمة وشعوبها، أو بين الأسود والأبيض.. والمشرقى والمغربى والخليجى، وبين الديانات والمذاهب المختلفة.. فكما نعرف جميعا أن المناخ السىء والظروف الصعبة يفرزان صراعات وهمية وأحقادا دفينة بين الأفراد.. تتحول بمرور الأيام إلى ميراث من الحقد والكراهية، وعدم قبول الآخر، بالرغم من أنه شقيقه، ونجاحه وتقدمه سينعكس عليه أولا وأخيرا..
وسط هذا المناخ غير الصحى، لم يكن العرب قادرين على المكاشفة ومصارحة بعضهم البعض، فصنعوا لغة مختلفة وجديدة، يقابلون بعضهم بالترحاب والسعادة والتقبيل، ويتفقون على كل شىء، ثم ينفذون عكس ما يقولون.. فأصبحت اللغة غير معبرة، بل خادعة، فوقع الشارع ـ أى الناس ـ فى حيرة.. ماذا يقصدون بالضبط؟ هل هم مرتاحون للتعاون وأن علاقاتهم ببعضهم البعض سوية؟ كما تكشف التصريحات أم أنها اللغة المبطنة التى تخفى أكثر مما تعلن، وقد انعكس هذا الوضع على الحوار الذى يصنع التفاهم، فتوقف فعليا، بالرغم من أنه مستمر شكليا.
من هذا المنظور نظلم الشعوب العربية إذا تصورنا بحكم الممارسات أنها تبغض بعضها.. فقد قرأت لأحد المتخصصين، أن العرب يكرهون الفلسطينيين وأنهم يزينون أكاذيبهم بشعارات عاطفية، تخفى تحتها القبلية العربية الخبيئة مستخلصا أخطاء لم تفعلها الشعوب.. لكن فعلها الفريق الوحيد أو المؤسسة المنفردة بحكم الشعوب.. لكى نلصق التهم بالأبرياء والمظلومين، وبالتالى نخلى سبيل المجرم الوحيد، حتى القضية التى أخلصت لها الشعوب العربية.. قضية فلسطين وشعبها المظلوم لم تسلم من ظلم العرب.
وهكذا يتوالى الظلم والاضطهاد.
حتى جلد الذات ونعت العرب بالتخلف والثرثرة، وأنهم أسرى المؤامرة والخوف من المجهول، فالشعوب وحدها هى التى تدفع ثمن أخطاء وقعت من الفريق الوحيد المتحكم الذى نحى الأمة وأوقف حيويتها، وتحكم فى مصيرها، كل الأخطاء تدفع ثمنها الشعوب وحدها، ويهرب المسئول الحقيقى عن هذه الجرائم.
فالحاكم الفرد الذى أضاع الموارد وأهدر كل القيم، واعتدى على شقيقه.. لم يدفع الثمن.. بل حصل على الجوائز.. ومن دفع الثمن؟ هم الشعب والأطفال.. والكهول والشباب.. وهو ينعم بل أصبح يتحكم أكثر فى الشعب الفقير المظلوم.. فكما يعرف الجميع أن حكم الفقراء والمرضى أسهل كثيرا من حكم المتعلمين والأقوياء والأغنياء.
حتى الثروة التى خزنت فى باطن الأرض، وجدت من يستغلها فى شراء الأسلحة وتركها فى الصحراء بلا عمل أو دور. وهكذا بُدِّدَتْ الثروات.
من خلق الصراعات فى المنطقة العربية؟ هل وضعتها الشعوب المظلومة والمضطهدة والمتهمة بكل السلبيات؟
أكبر صراع فى المنطقة العربية كان على يد إسرائيل التى اضطهدت الشعب الفلسطينى وطردته من أرضه، وفرضت بالسلاح والحديد والنار استيطان أجانب بدلا من أصحاب الأرض.. من صنع ذلك؟ هل الشعوب العربية أم المستعمرون والقوى الكبرى، وعاونهم الفريق المتخاذل الوحيد المتحكم فى مقاليد الأمور العربية.. ولعل أخطر ما صنعته إسرائيل أنها بذرت الفتنة بين العرب المسلمين والمسيحيين من ناحية، واليهود من ناحية أخرى.. رغم أن العرب لا يكرهون اليهود، لكن يمقتون الظلم والعدوان.
والحدث الثانى يتمثل فى حربى الخليج الأولى والثانية.. وكان الهدف منهما زرع الشقاق والنزاع بين الشعوب. وتبديد الثروة العربية. وقد نجحت هاتان الحربان إلى حد كبير فى تحقيق أهدافهما، إذ وصلنا إلى حال من الصعب التنبؤ بكيفية خروج الشعوب العربية منها.
العرب أبرياء من ظلم كبير. لكن لا نستطيع تبرئتهم لأنهم استسلموا ولم يقاموا عناصر الفساد داخلهم أو تسلط فريق منهم على الجميع.
وأعتقد بل أجزم أنهم سيخرجون من أزمتهم، والخروج الكبير سيكون باحترام الحقوق والمشاركة للجميع، بظهور مؤسسات حية وخلاقة تعبر عن المصالح الحقيقية للشعوب، ولا تكتفى بمؤسسة واحدة أو برأى واحد.. وبصناعة فكر التعدد، واحترام القانون والمكاشفة الصريحة، بإعادة الاحترام إلى اللغة، وأن تعيد إلى كلماتها المعانى التى فقدتها، والتى تعنيها، حتى يسهل الحوار بين أطراف الأمة بلغة واحدة ومستقرة.
التقدم ليس حكرا على جنس بشرى، كما أن التخلف ليس قدرا على جنس دون آخر.
ولعلنا نلاحظ الآن أن الميول العالمية تشجع عمليات التغيير والتقدم السريع لوسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات التى سوف تجعل الشرق الأوسط أكثر إدراكا ووعيا بكيفية معايشة الآخرين، وسوف تزداد درجة الحريات التى تتمتع بها شعوب المنطقة.
كما أن بروز أجيال جديدة وتيارات مختلفة من الشباب والمنظمات اكتسبت العلم المتقدم.. غير متأثرة بتيارات الماضى.. تركز الآن جهودها على تحرير الاقتصاد والإصلاح السياسى.. سوف تدفع بالاتجاه نحو التغيير والتطوير، ولعلنا نشعر بأن الأجيال الجديدة من القيادات اتجهت مباشرة إلى إحداث تحولات سياسية ومصالحة مع واقع بلدانها.
وكان ظهور هذه القوى الجديدة الحية فى دماء المجتمع العربى وراء التغييرات الكبيرة الضخمة التى طرأت على البنية السياسية العربية والإقليمية، ولعل قوة الدفع وراء التغيير التى دفعت المنطقة إلى التفاوض السلمى لإنهاء الصراع فى الشرق الأوسط على مائدة المفاوضات.. وامتلاك القدرة على محاصرة الدولة الإسرائيلية داخل حدودها، ومنع تطلعاتها العسكرية التى هددت المنطقة.
وهذه القوة التى مهدت الطريق أمام الفلسطينيين للتفاوض داخل أرضهم.. وسوف تمكنهم فى القريب العاجل من إعلان دولتهم وتقرير مصير شعبها.. بعد أن شهدوا عاما من النضال والتشرد، وأصبحوا الشعب الوحيد فى العالم الذى تحول إلى لاجئين فى مخيمات تحيط بالدولة التى اغتصبت أراضيهم.
وهذا العقل نفسه هو الذى حاصر الانزلاقات التى كان من الممكن أن تحدث فى ليبيا والسودان، لكنه وضعهما على سياسة تصحيح المسار..
هذا التوجه يفرض حشد العقل العربى وراء العراق، حتى نواجه سياسة محاصرة العراق.. وننقد شعبه من المؤامرة التى تقع عليه. ويساعدها على تفاقمها المجموعة الحاكمة هناك.
كما أن المنطقة العربية فى حاجة إلى تفكير مشترك لما بعد السلام،. فالجميع يواجه تحديات صعبة خاصة فى مجال الاقتصاد، ويكفى هنا للتدليل أن التحديات تشمل الجميع.. فالنمو والعمل أصبحا ضروريين لكل الشعوب العربية.. إذا كانت هناك رغبة فى تحقيق الرخاء للمجتمعات، وتشير التقديرات إلى ارتفاع معدلات البطالة بين فئات الشباب الباحثة عن العمل حتى فى الدول المنتجة بنسبة خلال السنوات العشر القادمة وحدها.. وهو ما يعد ضعف المعدل فى بقية العالم النامى.. والعلاج الوحيد لضمان النمو فى المستقبل ينحصر فى القطاع الخاص.. كما أن المنطقة فى حاجة إلى جذب رأس المال وزيادة التنوع الاقتصادى.. كما تحتاج أسواق رأس المال إلى التطوير والانفتاح على المستثمرين الدوليين، ومواصلة الإصلاحات الهيكلية والارتباط بالاقتصاد العالمى خاصة فى مجال التجارة والتخصيص ونرى الصورة الإصلاحية تمتد إلى خصخصة الخدمات والمصانع العامة، ونجحت إلى حد كبير فى مصر وتونس والمغرب، حيث جذب التحرر الاقتصادى رأس مال أجنبىاً، وحفز النمو بصورة أسرع، وتتجه دول مجلس التعاون الخليجى الست إلى ممارسة نفس السياسة بدرجات مختلفة من الحماسة.. ولم يكن سهلا إحداث التغيير الاقتصادى والسير فى هذه الاتجاهات التحررية لأنظمة استمدت شرعيتها وسلطتها باعتبارها الممول الوحيد القادر.
إن تغيير السياسة الاقتصادية الأبوية التى انتهجتها المنطقة العربية.. أصبحت حقيقة. وأصبح الجميع ملتزمين بالإصلاح الاقتصادى.. وسوف تتغير نتيجة لذلك العلاقة بين الحكام والمحكومين، وستؤدى هذه السياسة إلى نتيجة منطقية ينعم فيها الناس بحرية فى التفكير والعمل فى منطقة أو بلاد تحقق معدلات أعلى فى النمو عما هى عليه اليوم.. فإننا نتوقع طبقا لهذه السياسة الاقتصادية أن يصبح هذا القرن ديناميكيا مثلما كان القرن الماضى مثيرا وصعبا.
وإذا رصدنا التغييرات الاقتصادية والتكنولوجية وفتح الباب لحرية الرأى واتساع نقل المعلومات، فإن هذا كله سيؤدى إلى تغيير سياسى وبداية ظهور مؤسسات سياسية عصرية تبنى استراتيجياتها على رؤى مختلفة عما كانت تبنى عليه فى الماضى.. بمنظمات سياسية تتبنى الأجيال الجديدة وطموحاتها.. هذه المنظمات سواء أكانت جمعيات أم أحزابا وجماعات ستخلق واقعا سياسيا جديدا.. إذا لم تستجب له القيادات المالية.. فإنها ستفرض على نفسها العزلة وعدم القدرة على التكيف.
ومثلما فرضت التكنولوجيا وانتشار المعلومات التخلص من سيطرة الدولة على المعلومات.. حصلت الشعوب على الحرية الاقتصادية.. ومن ثم فإن الحكومات التى تنشد الرخاء ستجيز عاجلا أم آجلا الحرية السياسية، وهذه الخطوة الجبارة ستخلصنا من احتكار السلطة من جانب جماعات محدودة أو لشخصيات بعينها، وسوف تشترك الأمة كلها فى اتخاذ القرار. ونتصور أن هذا هو الطريق الوحيد لبعث حيوية العرب وإعادة دورهم فى صنع الحضارة والتقدم والتخلص من التخلف الذى وصموا به ظلما وعدوانا.

