الحرب الراهنة فى فلسطين

لا يمكن لجيش أن يهزم شعبا تتداعى الأمور سريعا فى منطقة الشرق الأوسط. ولعلنا نرقب الآن التطورات العسكرية المحمومة، التى تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطينى، التى وصلت خطورتها إلى استخدام كل الأسلحة التى تستخدمها الجيوش فى الحروب العسكرية الشاملة، بما فيها الطائرات المقاتلة، وهى حرب شاملة تقوم بها إسرائيل، لا توجه إلى قوة عسكرية مماثلة، لكنها توجه إلى مقاومة باسلة من شعب غير مسلح، ولا يملك قوة عسكرية، هو الشعب الفلسطينى البطل، لأنه يرفض الاستسلام لطغيان المحتل، الذى لم يكفه، أنه وضع يده بمساعدة الولايات المتحدة والغرب على تراب الشعب الفلسطينى كاملا، بضربه وتحويله لأكثر من 53 عاما، إلى لاجئين ينتشرون فى مخيمات إىواء، ويريد الآن أن يقتله بالكامل.
وأرى كما يرى الآخرون، أن إسرائيل لن تستطيع أن تحقق فى حربها الراهنة أى انتصار، بل إنها تهزم نفسها، وتقتل آخر أمل لها، لكى تقيم فى أمن وسلام فى الشرق الأوسط، الذى زرعت فيه غصبا وعدوانا، وانتهاكا لكل القيم والحقوق المشروعة، وسط دعاوى زائفة لن تصمد طويلا، فالطائرات التى تضرب الآن الفلسطينيين وتفكك السلطة الفلسطينية، لن تحقق هذا الهدف، لأن السلطة التى تفككها الآن إسرائيل، هى نفسها التى قبلت بالسلام معها، وتفاوضت منذ مدريد وأوسلو 1993 نحو التعايش الإقليمى مع إسرائيل، وضرب هذه السلطة، هو ضرب لمنطق التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيلىين، بل بين العرب والإسرائيليين، بل إن هذا الضرب هو المخاض، الذى يعلن أنه لا أمل لإسرائيل شرق أوسطيا، وأن الإسرائيليين قتلوا بأيديهم هذا الأمل الجنينى ـ الذى سيطر على العقول حينا بأنه من الممكن للعقل العربى ـ قبول إسرائيل والتعايش معها، وقد ظل أمل السلام يراودنا، وتصورنا أن الإسرائيليين هم الأحرص على هذا السلام، لأن فيه مستقبلهم، لكن فجأة ضاع هذا الأمل وتحول إلى سراب أو هم، يتكرس يوميا، ونحن نرى الفلسطينيين فى جنازات يومية يشيعون شهداءهم بالمئات والآلاف من ضحايا الانتفاضة والجرحى الذين ينقلون إلى المستشفيات بإصابات بالغة، الذين سيظلون للفلسطينيين وساما للبطولة، وللإسرائيليين رمزا للخسة والنذالة، بل الحقارة، وهزيمة شبه مطلقة للإسرائيليين، لأنهم فشلوا فى التعايش الإقليمى وإعطاء الحقوق لأصحابها، فالإسرائيليون لا يقتلون الفلسطينيين فقط، بل يقتلون دولتهم بأيديهم ويهزمون فكرة التعايش مع العرب، بل إنهم يحطمون عسكريتهم ويحولونها إلى رمز للعار سيلاحق جنرالاتهم، لأنهم هزموا من الشارع الفلسطينى، فلا يمكن لجيش أن يهزم شعبا، مهما بلغت قوته، بل مهما بلغ ضعف الشعب، وقلة حيلته، فتلك معادلة لا تستقيم ولا يمكن تحقيقها.
وسط المتغيرات المتلاحقة، حدث تغيير طفيف فى الموقف الأمريكى لا يتناسب مع التأثيرات الضارة والوخيمة التى تحدث فى الواقع، نظرا لغياب الدور الأمريكى فى الحد من تفاقم الصراع فى المنطقة، ومن لجم الاعتداء الوحشى الإسرائيلى على الفلسطينيين، والمتمثل فى الرفض الأمريكى لاستخدام الطائرات إف 16 فى معركة الإسرائيليين مع الشارع الفلسطينى.
وإذا كانت التطورات العربية قد وقفت بحكمة متناهية وضبط للنفس يتمثل فى رغبة العرب فى عدم الانجراف وراء الرغبة الكامنة لدى شارون وجماعته لإشعال الحرب على الجبهات العسكرية للهروب من المستنقع، الذى أوصله إليه غرور القوة وحمقها، فقد تصرف العرب بحكمة تمثلت فى دعوة الرئيس حسنى مبارك للإسرائيليين والأمريكيين وتحميلهم الانهيار الحادث الآن فى السلام وتحقيق الاستقرار الإقليمى، ومطالبة الأمريكيين والأوروبيين بتحمل التزاماتهم نحو عملية السلام، واتساع عمليات القتل للفلسطينيين والدائرة الجهنمية التى تتجه إليها المنطقة بسرعة متناهية لا يمكن لأحد أن يسيطر عليها وسيفلت الزمام، وستتعرض مصالح الجميع للاهتزاز، بل للانهيار.
كما أن مغزى رفض الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولى العهد السعودى تلبية دعوة الرئيس الأمريكى جورج بوش، حملت فى طياتها رسالة عربية ذات مغزى عميق، يجب ألا تفوت على أى مراقب، وسيكون لها صدى وتأثير لدى الإدارة الأمريكية، بل الرأى العام الأمريكى ككل.
كما جاء قرار لجنة المتابعة للقمة العربية الأخيرة فى القاهرة هو الآخر واضحا وقويا لوقف الاتصالات مع الإسرائيليين، فلا يمكن الاتصال وسط العدوان السافر والهمجى والمتوحش.
وجاء القرار كصفعة قوية لإسرائيل لعلها تتعظ قبل فوات الأوان، والانزلاق إلى مرحلة الفوضى، التى سوف تطال إسرائيل وتهز كيانها ومستقبلها، ونظامها الاقتصادى والسياسى الذى تقيمه فى المنطقة، وتجعل شعبها يشعر بأنه لا أمل فى بقائها، فلا يمكن التعايش فى ظل الرفض الشعبى العارم.
وإذا كان الحل السلمى يبدو أكثر مراوغة عن ذى قبل، وأصبح صعب المنال، فإنه بدون التدخل الدولى الجاد ستصبح دائرة الانتقام أكثر إحكاما.
فإن سلسلة المقترحات التى قدمها جورج ميتشيل ستكون بلا جدوى لإنهاء الأزمة، لأنه ليس هناك قائد إسرائيلى يستطيع اتخاذ قرار ينقذ به بلاده من حافة الهاوية، لأنه كما يقول دينيس روس الخبير الأمريكى ومنسق عملية السلام فى الشرق الأوسط فى حكومة كلينتون السابقة ـ ومدير التخطيط الحالى فى وزارة الخارجية، أن العنف والتدهور لا يمكن أن يتوقفا بدون مبادرة أمريكية أو دولية تقدم تبريرا لوضع نهاية عنف، كما سماه وهو فىحقيقته حرب إسرائيلية غير معلنة علىالفلسطينيين، وإذا كان روس يطالب بتدخل أمريكى، فإنه يقرنه بشروط غير موضوعية تتهرب فيها أمريكا من مسئوليتها تجاه السلام، وبعدم قدرتها على الضغط على الإسرائيليين وفرض حلول موضوعية لأزمة السلام المستحكمة، حيث يشخص الموقف الراهن بأنه لا يمكن أن تكون هناك حقيقتان الأولى على مائدة المفاوضات، والأخرى فى الشارع، فالمفاوضات لا يمكن أن تقام فى مناخ من العنف والتحريض، ولا يمكن اتخاذ خطوات أحادية الجانب تغذى هذا الغضب، ويتخبط روس، وهو يفكر كما تخبط وهو يفاوض، ولا يشير إلى العجز الأمريكى الذى يفرض عليها أن تخاطب إسرائيل بلغة تفهمها، وتفرض عليها قبول السلام الذى يقدمه لها الفلسطينيون بشروط التفاوض فى أوسلو، الأرض مقابل السلام والأمن، والأرض هنا هى الأرض المحتلة فى 1967، والإسرائيليون لا يقدرون على دفع التزامات السلام كما وصف ذلك بدقة بن عامى الوزير الإسرائيلى السابق عندما قال توصلنا إلى نتيجة بأن السلام مرتبط بتنازلات صعبة ومؤلمة، ومخطىء من يعتقد أنه من الممكن التوصل إلى سلام بواسطة إجماع شعبى، سنتوصل إلى سلام فقط إذا دفعنا الثمن بانقسام وسط الشعب، ولعل أخطر ما قاله بن عامى بأنه من الممكن التوصل إلى سلام بالضغط الأمريكى، لكن الأمريكيين غير قادرين على ذلك لأنهم منحازون لإسرائيل وغير موضوعيين.
فأى أمل ممكن أن تعود المنطقة إلى الاستقرار والخروج من الدوامة الراهنة، لا أمل إلا بأن يجبر الفلسطينيين الإسرائيليين على احترام حقوقهم والتسليم. بإرادة الشعب، وهذا سوف يتحقق ليس على طاولة المفاوضات التى أصبحت بعيدة بل عسيرة، لكن فى الشارع الفلسطينى بخيار المقاومة، وبقدرة الانتفاضة على تكبيد الإسرائيليين الخسائر الفادحة التى ستخرجهم من الأراضى الفلسطينىة كما أخرجتهم من جنوب لبنان

