سوريا من حافط إلى بشار الأسد

فى زيارة إلى سوريا بهدف إلقاء محاضرة على نخبة من الاقتصاديين ورجال الإعلام حول صحافة الخدمات وتأثيرها المستقبلى، كانت فرصة ذهبية لى لكى أتعرف فى قلب الشام على دمشق بعد مرور عام على رحيل الرئيس حافظ الأسد، الذى احتل مكانة بارزة ومحورية فى كل أحداث سوريا والشرق الأوسط على مدار الثلاثين عاما الماضية، وكانت الصورة الأولى فى قاعة المحاضرات حيث وجدت جيلا جديدا من العاملين العصريين المتميزين الذين يعملون فى شركات حديثة، وبلغة معاصرة، تشير إلى صورة الاقتصاد السورى، وكانت الصورة الثانية، وأنا أرى الأجيال الجديدة من الشباب السورى وهم يرتادون المطاعم الحديثة ويتحركون فى الشوارع والأحياء القديمة الراقية النظيفة.
وفى جولة فى أحياء دمشق الجديدة رأيت مدينة حديثة تبنى على طراز مختلف للشباب والزيجات الجديدة والعشوائيات محدودة، إلا من بعض الجماعات الكردية التى نزحت من الحدود التركية، وليست هناك أزمة إسكان أو تكدس فى الشوارع. فالعشوائيات محدودة إلا لبعض الجماعات الكردية، كل من التقيتهم من السوريين، يتطلعون للمستقبل باستبشار، وبروح معنوية عالية، كل هذه المظاهر الأولية كانت مهمة بالنسبة لى إلى حد كبير أكثر من المؤشرات الرقمية، أو تأكيدات الرسميين، فقد تعودنا فى العالم العربى ـ أن تكذب أرقامنا أو نقول عكس ما نعتقد أو نحس، كما أن سوريا مرت بحدث صعب أو جلجل، وهو رحيل القائد أو الوالد، فهو مؤسس سوريا الحديثة، وذلك ليس شعارا، فعندما تسأل عن قصر أو مصنع أو طريق أو مبنى أثرى، وحتى الجامع الأموى نفسه، كل هذه المبانى شيدت أو رممت فى عصر الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذى صبغ سوريا الحديثة ليس كسياسة فقط، لكن فى كل المجالات، ولذلك تصور الكثيرون والعديد من المراقبين أن غياب الرئيس المؤسس سيكون له دوى، وتلك حقيقة، فهناك إحساس لدى السوريين بفداحة الغياب، لكن ما لم يحدث أن الرحيل قد أحدث فراغا أو غيابا للدور والعمل، فقد واصلت سوريا دورها، بل عززت مكانتها بإصلاح وتحديث لهياكل الدولة الداخلية، واتخذ الرئيس بشار الأسد قرارات اقتصادية فى إصلاح البنية الاقتصادية، بالسماح للاستثمارات الأجنبية ـ خاصة العربية وإطلاق البنوك والمصارف السورية الخاصة، وهو القرار الذى يطلق عليه الكثير من الاقتصاديين القاطرة التى سوف تجر الاقتصاد السورى نحو الانفتاح والانطلاق نحو الارتباط بالاقتصاد العالمى.
وخلال زيارتى التقيت بوزير الإعلام د. عدنان عمران، الذى كان حريصا على الاستماع والإجابة عن أى سؤال بلا تردد، وعندما قلت له فى الخارج يشعرون بأنكم مترددون فى إتمام الإصلاحات، كما إنكم خائفون من استكمالها، قال كيف يكون ذلك وقد نجحنا فى عام واحد من رعادة هيكلة الدولة بكل قوانينها ومؤسساتها، وهناك شعور لدى الرأى العام بالتفاؤل، وأن ما يزرع اليوم يحصد غدا، لكننا لا نخفى حذرنا من بعض الموضوعات الاقتصادية الحساسة، مثل موضوع النقد، فاقتصادنا لا يحتمل التهريب، لكننا اقتحمنا مجال الاستثمار وسمحنا للعربى بحق التملك، كما دخلنا مجال التعليم الحر، وتأهيل الكوادر البشرية، وتقدمت لنا أربع جامعات، خاصة بالتكنولوجيا المتقدمة.
وبالنسبة لقضايا الفساد، هل تراجعتم عنها؟ أجاب لم يحدث أى تراجع، وبدون الدخول فى تفاصيل، فالفساد فى سوريا أقل، ولم يحدث أي تستر على قضية فساد واحدة، لكن الجمهور يبحث عن معالجة سياسية والدولة تبحث عن معالجة قضائية.
وفى قضية الصراع بين الجديد والقديم فى سوريا يقول الوزير عدنان عمران تلك قضية مفتعلة، وهل القديم بالسن أم بالأفكار الجديدة والروح المتغيرة؟ وقد خرجت من حوار الوزير الذى لم يكتمل، وهو يستعد للذهاب إلى القرداحة للمشاركة فى مراسم الذكرى الأولى لرحيل الرئيس حافظ الأسد.
وعندما وصلت إلى القاهرة فى رحلة لم تستغرق 24 ساعة، وجدت تليفونا ينتظرنى من إذاعة صوت أمريكا فى سؤال حول الفرق بين عصر بشار الأسد، وحافظ الأسد، وما التغيير الذى طرأ فى سوريا؟ فقلت على الفور لعل التغيير الكبير هو أن السوريين وقيادتهم الشابة قد أفسدوا عليكم جميعا كل التنبؤات بالفراغ الأمنى، وتدهور الأوضاع والصراع المنتظر، وأن سوريا نجحت فى الوقوف صفا واحدا خلف الرئيس بشار الأسد، وهذا فى حد ذاته كان حدثا مفاجئا بالنسبة للمراقبين الغربيين، ومن وجهة نظرى فإنه بالرغم من التطورات الاقتصادية المهمة التى حدثت فى سوريا خلال عام، فإن الحدث الأهم بالنسبة لى كان فى تعامل الرئيس السورى الحضارى مع التطورات السياسية فى لبنان، وكيف استوعبت الأصوات التى خرجت من لبنان تطالب بخروج الجيش السورى من لبنان، فقد تعامل سياسيا مع الحدث، وترك الحرية لكل القوى السياسية فى لبنان أن تقول كل ما عندها، بل إن سوريا كانت وراء حماية الديمقراطية اللبنانية ولم تتدخل من قريب أو بعيد فى الانتخابات واستطاعت أن تكسب أنصارا ومحايدين لأهمية الوجود السورى، بل إنها أثبتت أن لغة السياسة والحرية، لها تأثير أقوى أو أكثر فعالية من أى لغة أخرى، قد تكون استخدمت فى أى وقت مضى، وكان لسياسته أبلغ الأثر على كل اللبنانيين، بل إنها تشير إلى قدرة الرئيس بشار على إقامة علاقة مستقبلية نموذجية بين سوريا ولبنان فى المستقبل، وتحصل بها على اعتراف وتأييد كل القوى اللبنانية بحرية وبلا ضغوط، وتلك هى لغة المستقبل.
كما أن سوريا بشار الأسد تعاملت مع ثوابت عملية السلام بجدية وكفاءة واقتدار، ففوتت الفرصة على الإسرائيليين، فى أن يجروا سوريا إلى صراع عسكرى غير محسوب، مع الحفاظ على دعمهم للمقاومة اللبنانية فى الجنوب، ومزارع شبعا، وتلك معادلة صعبة أدارتها سوريا باقتدار، استطاعت بها استكمال عملية تحرير الجنوب وشاهد السوريون ثمار المقاومة بالتحرير، وحافظوا على قوة المقاومة وحريتها بقرار الجيش اللبنانى، عدم الانتشار على الحدود إلا بعد كامل التحرير.
كما نجح بشار الأسد فى فتح صفحة جديدة مع ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية بدعمهم للفلسطينيين غير المشروط فى انتقاضهم وثورتهم على الاحتلال الإسرائيلى.
وكانت صورة سوريا وهى تستقبل البابا يوحنا بولس الثانى بابا الفاتيكان حضارية ومثالية، وقد أكدت خلالها وجه سوريا المعتدل والراغب فى دعم السلام العالمى والحفاظ على استقرار منطقة الشرق الأوسط، وبالرغم من المحاولات الصهيونية فى اجتزاء كلمات من كلمة الرئيس بشار لكى يتهم من قبل القوى الصهيونية، بأنه يلجأ إلى العنصرية بتصريحه ضد اليهود، الذى اتهمهم بأنهم حاولوا قتل كل مبادىء الأديان بنفس العقلية التى خانوا بها يسوع المسيح، وبنفس الطريقة التى حاولوا بها قتل النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
والرئيس السورى الشاب كان شجاعا، وعبر بحرية عن أن من يقتل الفلسطينيين والأطفال والنساء، وأن الجيش الذى يستأسد على المدنيين هم أنفسهم العنصريون وأعداء الأديان، ولم يقبل اليهودى، فسوريا هى البلد الأمين الذى يعامل فيه المسيحى والمسلم واليهودى كمواطن سورى حر بلا تمييز أو عنصرية، لكن فريدمان الكاتب المتعصب لم يجد ما ينتقد به الرئيس بشار إلا هذه الجملة الصادمة المعبرة، مشيرا إلى أن قادة العالم الجادين لا يطلقون مثل هذا النوع من الملاحظات علانية، حتى ولو كانوا يعتقدون فيها، فوالده لم يفعل ذلك، مشيرا إلى أنه يحاول أن يبنى شرعية على كراهية إسرائيل بعد أن فشل فى بناء شرعية على تحديث سوريا وانتشالها من التخلف.
ونقول لفريدمان، إن بشار الأسد يبنى شرعية جديدة فى سوريا تقوم على التحديث المتدرج والرؤية العاقلة للمتغيرات والإيمان الحقيقى بالسلام القائم على العدل، وأن إسرائيل هى التى تبث الكراهية والتعصب برفضها للسلام العادل وضربها للفلسطينيين ومحاولات تصفيتها للسلطة الفلسطينية، فكيف يفتح معها بشار الأسد صفحة السلام وهى تغلقها فى وجه الفلسطينيين وتضربهم وتستعدى كل المنطقة ضدها؟

