مقالات الأهرام العربى

ليس غريبا أن تتزامن طلقات الطائرات الأباتشى الإسرائيلىة على مقار الرئيس الفلسطينى عرفات وطائراته ومطاره اليتيم المحاصرفى غزة

ليس غريبا أن تتزامن طلقات الطائرات الأباتشى الإسرائيلىة على مقار الرئيس الفلسطينى عرفات وطائراته ومطاره ˜اليتيمŒ المحاصرفى غزة، وحصاره ومنعه من السفر إلى الدوحة لحضور مؤتمر وزراء منظمة المؤتمر الإسلامى، مع طلقات المدافع الإعلامية العالمية التى خرجت فى أسبوع واحد بعناوين مثيرة، تحمل فى أغلفتها ˜وداعا عرفات.. وكيف وقع عرفات فى الفخ؟ وأصعب أوقات عرفاتŒ.

فى الوقت الذى كان فيه الرئيس الفلسطينى يتجرع، ليس السم كما أطلق عليه أعداؤه، لكن أصعب دواء طعمه مر كالعلقم هو أمره باعتقال ناشطى ˜حماسŒ،و˜الجهادŒ، واحتجاز الزعيم الفلسطينى الروحى الشيخ أحمد ياسين فى منزله.

لكن الرئيس الفلسطينى لم يتعرض للضرب الإسرائيلى أو الحصار والضغوط العالمية فقط، لكنه كان أيضا يتعرض لظلم أهله ومواطنيه وعشيرته، وهم يتهمونه فى الوقت الذى يخوض فيه أصعب معاركه التى يجب أن ينتصر فيها، وليس أمامه إلا الانتصار، فهزيمته. ستكون أقسى هزيمة ليس لعرفات وحده، لكن للقضية الفلسطينية كلها، ولا أبالغ إذا قلت للاستقرار الإقليمى، ولمستقبل الشرق الأوسط، كنت ألوم عرفات عندما يبالغ فى التمثيل أو الحماسة والخطابة والسفر الكثير، أو عندما يقول وهو يرفع علامة النصر فى كل الأوقات، حتى فى الشدائد والهزائم ˜فلسطين الرقم الصعب فى الشرق الأوسطŒ، فإذا بالرئيس الفلسطينى الذى يحكم إدارة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أكثر من 30 عاما، عرفات 72عاما أستاذ ليس فى البقاء السياسى فى أصعب المعارك والظروف فحسب، أو فى قدرته على التحول من مناضل ثورى إلى أحد أبرز صنّاع السلام فى عالمنا، وسط مناخ يبدو فيه النجاح والاستمرار مستحيلا، فقد استطاع أن يعتمد براجماتية عالية وقدرة فذة على التعامل مع الأصدقاء والخصوم بل الأعداء، والأهم تمتعه بخاصية الأب الروحى للفلسطينيين، واستطاعته فى كل أوقات الشدة أن يكون العنصر الحاسم فى تماسك الفلسطينيين على الأرض، وعلى مختلف المسارح الإقليمية والدولية.

لقد نجح عرفات ­ وقد يكون هذا خطأ ­ فى أن يكون هو نفسه الدولة الفلسطينية فى غياب الدولة الحقيقية، فأصبح عنوانا للدولة، وقد تكون هذه خطيئة عرفات، ونقطة مقتله ومقتل الدولة، إذا لم يتم الحفاظ عليه، وعلى منظمته، وإذا لم تدرك كل فصائل المقاومة الفلسطينية على اختلاف انتماءاتها، المكانة التى يجب أن يحتلها عرفات وسط الفلسطينيين، وضرورة، بل حتمية أن يكون قراره ملزما لكل الفصائل وللشعب الفلسطينى، حتى إذا لم يقتنعوا، فالوقت لا يسمح بالتمرد أو الرفض، وحساسية الموقف الفلسطينى محليا وإقليميا ودوليا، تلزم الفلسطينيين بالالتفاف حول عرفات وحمايته، بل الوثوق فيه، وأن يعرفوا أنه يقودهم صوب الدولة الفلسطينية، وأن الحلم اقترب تحقيقه، كما أن الانتفاضة الفلسطينية واستمرارها ليست هى الشرط الوحيد ليعرف العالم أن هناك فلسطينيين يستحقون دولة، لكن الشرط الوحيد هو أن يعرف العالم أن هناك قيادة فلسطينية يثق فيها شعبها، وأنها تستطيع اتخاذ القرار وأن شعبها يتفهم دوافعها وظروفها، فالأوقات الحرجة هى محك الحكم على الشعوب.

ولذلك فقد أدركت عمق ومغزى قرار القاهرة بإيفاد وزير خارجيتها ˜أحمد ماهرŒ إلى إسرائيل لأول مرة بعد انقطاع زيارات الوفود المصرية إلى إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة، ووسط حملة الاضطهاد التى تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ صعود شارون إلى سدة الحكم، فمصر تدرك جيدا طبيعة الحكم فى إسرائيل، ومرامى شارون تجاه السلام، وموقفها من عرفات والسلطة الفلسطينية وتعرف أن الزيارة لن تحمل تغييرا جوهريا فى قرارات شارون، لكن الزيارة حملت فى طياتها خوف القاهرة وتحذيرها فى نفس الوقت لإسرائيل، من أن اتجاهها لتصفية عرفات والسلطة الفلسطينية خط ليس أحمر فقط، لكن خط نهائى وقطيعة ربما تنسف عملية السلام برمتها، وتفتح طريقا للفوضى والإرهاب والتوتر، لن تتحمله إسرائيل فقط، لكن منطقة الشرق الأوسط بأسرها، فالسلطة الفلسطينية وعرفات يشكلان البنية الأساسية الوحيدة الباقية للعملية السلمية وتصفيتها أو إخراجها يفتح باب جهنم على الجميع، ولذلك فهذا ليس قرارا شارونيا فقط، لكن من الممكن أن يندفع إليه شارون ليرضى طموحه ورغباته الدفينة، لكن سيدفع الشعب الإسرائيلى والفلسطينى والعربى ثمنا فادحا لهذا الانهيار، والذى لا يمكن تجاوزه على الإطلاق، بعد عقدين من قيام السلام العربى ­ الإسرائيلى.

وأعتقد أنه من هذا المنظور فقد وصلت رسالة القاهرة إلى كل من تل أبيب وواشنطن، والمجتمع الدولى، لذا ربما بدا الجميع حذرين من خطورة ما يندفع إليه شارون من تطوير حالة العداء والضرب الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى، ومحاولته المكشوفة لضم الفلسطينيين إلى الجانب المضاد للحملة الدولية التى تقوم بها أمريكا ضد الإرهاب، مستغلا التعاطف الدولى معه بسبب حادث فردى أو مجموعة حوادث وقعت فى القدس الغربية وحيفا فى أوائل ديسمبر الحالى، وراح ضحيتها مجموعة كبيرة من الإسرائيليين، فبدلا من أن يأخذ عبرة من هذه الحوادث، ويدرك خطأ توجهاته، ومغزى أهدافه، فإنه أصبح غير قادر على حماية أمن دولته وشعبه بسياسته الأمنية أو عبر قمع وإرهاب الدولة الذى لن ينجح فى الوقوف ضد إرادة شعب يسعى إلى التحرر والاستقلال، وأن يغير من سياساته باللجوء إلى المراوغة وإطالة أمد الصراع، وزيادة أعداد الضحايا من الجانبين، ووقوع المزيد من الخسائر، وبدلا من أن يعترف بفشله وإخفاقاته المتكررة، سواءعلى صعيد الأمن أم الاقتصاد أم التطوير وتحقيق أهداف شعبه، فها هو يعلق فشله فى رقبة عرفات والشعب الفلسطينى، ويثبت أنه ليس إرهابيا فقط، لكنه أيضا ليس ديمقراطيا حتى مثل سلفه الضعيف باراك، وبدلا من أن يحتكم مثله إلى الرأى العام، ويطلب رأيه، يدفع المنطقة إلى نفق مظلم شبيه بالنفق المسدود الذى تتسم به إدارته السياسية لإسرائيل.

أعترف بأن قلبى مع عرفات، وأتوقع أن يخرج من أزمته، لكننى أطالبه بالهدوء والتريث، وأن يستمر فى خطابه إلى الرأى العام الفلسطينى، ويكاشفه بكل الحقائق، وبالمتغيرات الإقليمية، وأن يعرف أن لحظة الحقيقة قد حانت، وأن قدرته على اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة أمر ضرورى وحتمى، وبغير ذلك لن يستطيع مواجهة شارون وحكومته، وكذلك عليه أن يضع عينيه على الرأى العام الإسرائيلى، قبل الرأى العام العالمى أو الأمريكى، فالإسرائيليون هم الذين يختارون حكومتهم، ولا يختارها الأمريكيون، وهم وحدهم القادرون على الضغط على الأمريكيين وليس العكس، والسلام سيكون معهم، ولن يكون مع الأمريكيين والذى سيدفع ثمن السلام هم الإسرائيليون، صحيح أن الأمريكيين والمجتمع الدولى يحتاجون إلى السلام، والعالم كله يدفع نحو تحقيقه، ونحو قيام الدولة الفلسطينية، لكن قدرة الفلسطينيين ستكشف عنها وحدتهم فى هذا الموقف الصعب والدقيق، ومن ثم قدرتهم على مخاطبة الإسرائيليين مباشرة ودفعهم نحو تغيير اتجاهات الحكومة، ومحاصرة المتطرفين والمتشددين وأعداء السلام.

وساعتها فقط لحظة انتصار عرفات ستتجسد حقيقة واقعة، وهى إعلان ˜الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدسŒ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى