مقالات الأهرام العربى

رسالة البابا ورسالة درويش

ظلت صورة الطفلة الرضيعة ˜إيمان حجوŒ تخايل عقلى وقلبى، حتى تجمدت عيناى على ملامحها البريئة، وهى تودع هذا العالم اللعين، وكأنما تجمدت الدموع وعجزت عن أن تسيل عجزا وقلة حيلة، وهزنى صوت زوجتى وهى تصرخ نحن نعيش فى عالم منافق، وأنتم منافقون، وكل العرب، خاصة المثقفين والسياسيين من يتكلمون ليلا ونهارا، أنتم تساعدون هذا العالم اللعين وتزايدون على الأرواح البريئة ولا يعنيكم الضحايا الذين يستشهدون لأنهم فقراء ومظلومون، ويطالبهم القادة والمستأسدون والثوار والنجوم بدفع ثمن صدارتهم وثوريتهم، وهو ثمن غال لا يدفع بالنقود، لكن بالدماء والحياة المستحيلة، فقد تناقلت عقولنا وأسماعنا صورا تراجيدية ودرامية لضحايا ودماء تسيل فى أرض الأنبياء، بينما بابا روما الذى يحظى بعظيم الاحترام فى الشرق والغرب، ولدى المسيحيين من كل المذاهب يختبر مكانته لدىالمسلمين فى قلب الشام، ويقبل عليه الفقراء ومن أعياهم اليأس من أبناء الشرق، مسلمين ومسيحيين، لكى ينقلوا رسالة السماحة والحب ـ لأبناء الغرب أو البابا وهو يقف عند مدخل الجامع الأموى ـ وبجوار قبر صلاح الدين محرر القدس، فى زيارة تاريخية إلى قبر ˜النبى يحيى الحاصورŒ كما يسميه المسلمون أو مقام يوحنا المعمدان كما يسميه المسيحيون، وكان البابا رقيقا فلامس مشاعر المسلمين عن الحروب الصليبية التى سببت ويلات وجروحا عميقة وإن اندملت مع مسبيها وصناعها، فقال علينا أن نغفر بعضنا لبعض كما علمنا اليسوع أن نغفر إهانات بعضنا بعضا إذا أردنا أن يغفر الله خطايانا.

بابا روما يوحنا بولس الثانى (81) عاما. الحبر الأعظم، رأس الكنيسة الكاثوليكية أو الكنيسة الجامعة، يتحامل على سنه وصعوبة حركته، لكى يستكمل رحلته التاريخية فى الشرق الأوسط ليقف فى سوريا قلب الشام داعيا إلى السلام والتسامح، فى حادثة تاريخية تحفظ لاسمه، حيث دخل مع مفتى سوريا الشيخ كفتارو إلى المسجد الأموى ليعيد تقليدا مر عليه 1366 عاما بعد سماح خالد بن الوليد وأبوعبيدة ابن الجراح للمسلمين والمسيحيين بممارسة شعائرهم فى مكان واحد، فصار الجانبان يدخلان من باب واحد يقود يمينا إلى المسجد، ويسارا إلى الكنيسة، قبل أن يقيم الخليفة الوليد بن عبدالملك فى عام 705 جامع بنى أمية الذى يضم رفات ˜النبى يحيى ومحرر القدس صلاح الدينŒ الذى شهد لقاء بابا روما التاريخى فى مايو 2001، يرى انعكاسا لقدرة الشعوب العربية على التسامح والحب والسلام مع الجميع، فهم لا ينتظرون حتى من المعتدين كلمة اعتذار صريحة، تعترف بخطايا الماضى، لكى تبنى المستقبل على أسس من الصراحة، لكن الشعوب التى تحب الحياة تقبل بالاعتذار الذى يغلف فى ورقة السلويفان. ويساوى بين المعتدى والمعتدَى عليه، ويطالب الجميع بالغفران والتسامح.

الشعوب العربية كررت تجربة الماضى فى القبول بالآخر، وقبلت السلام مع المعتدى الذى يقتل الأطفال ويستأسد بجيشه المدعوم أمريكيا وغربيا على العزل من الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق، الذين قبلوا بالمعتدى على حقوقهم ليشاركهم الأرض، بينما المعتدى يماطل فى رد جزء من الحقوق، ليعيش عليه فقراء الشعب الفلسطينى، الذين سلب منهم المعتدى الإسرائيلى القادم من كل أصقاع الأرض، ليسرق الأرض والمياه من أصحابها بدعاوى تاريخية عفا عليه الزمن. لكن القوة الظالمة والمتحكمة فى عالمنا المعاصر فرضت واقعا ظالما، قبله الضعفاء رغما عنهم، لكن المتسلطين أبو إلا أن يزرعوا الضغينة والكراهية فى القلوب إلى الأبد، لأنهم لا يقتلون الأطفال والنساء فقط، لكنهم يقتلون الأطفال الرضع، ويحاولون أن يقتلوا الحياة فى قلب الشعب الفلسطينى البطل، الذى استطاع رغم فقره وغناهم، وضعفه وقوتهم، أن يكشفهم ويعريهم، ليس أمام أسيادهم وأولياء نعمتهم فى العالم المنافق، الذى لا يعرف معنى للرحمة وحقوق الإنسان، لكن أمام أنفسهم وضمائرهم الغائبة، هذا الشعب القوى بضعفه، الغنى بفقره، استطاع أن يهزم جيوشهم، وهو لا يملك جيشا والأهم من الانتصار أنه سيجعل جنودهم وجنرالاتهم يخجلون من أنفسهم إذا اختلوا بأنفسهم، أو عندما يدخلون علىنسائهم وأطفالهم، أو عندما يضحكون أو يفرحون ويتذكرون أنهم تجردوا من كل إنسانية ورحمة، وأصبحوا حيوانات آدمية تتغنى بنصر مخجل، على من لا يملكون جيشا أو سلاحا ولا يقاتلون يا للعار، ونجاسة العسكرية، فقد إهدر الصهاينة شرف العسكرية فى العالم، عندما لبسوا زيها، وجعلوها رمزا للخزى والعار، ومن العيب بل من العار أن نشببها بالنازية، فالنازيون لم يقتلوا الأطفال الرضع، ولم يستأسدوا على المحاصرين بلا سلاح أو طعام، ولم نسمع عن جيوش نازية تفتخر بقتل أطفال ونساء فى الشوارع أو تحارب بالطائرات والدبابات والمجنزرات، ومن ورائها صواريخ الولايات المتحدة وأسلحتها النووية وأموالها الطائلة، شعبا أعزل محاصرا إقليميا وعالميا، لا يملك إلا الحجارة وشجاعة الروح والإيمان بأنه صاحب الحق ولابد أن ينتصر، حتى لا يكون فى الحياة خلل، أو يصيب الكون انحلال وتفكك وانهيار، فقد تربينا على أن للحياة نواميس، وللكون حقائق لا تغيب، وأن القوة مهما بلغت لا تهزم الحق، ولا تغيب الحقيقة.

وإذا كنا نكتشف يوميا شجاعة شعب يدخل فى نسيجنا ويختلط بدمائنا، وأصبح كل فلسطينى على الأرض المحتلة رمزا للصلابة والبطولة والشجاعة والشهامة، فإن احتقارنا للقوة ورموزها ˜إسرائيل وأمريكاŒ أصبح هو الآخر جزءا من حياتنا نراه ونلمسه مع كل حركة فى حياتنا اليومية.

ونرى كما يرى الشاعر المبدع محمود درويش الذى يتكلم من قلب الحدث، لا من لندن أو باريس، بلغة هى خير تعبير عن روح وانتفاضة الشعب الفلسطينى، حيث يقول فى ذكرى النكبة إن الانتفاضة هى حركة احتجاج شعبية ومدنية من حيث الجوهر لا تشكل قطيعة مع فكرة السلام، لكنها تسعى إلى إنقاذها من خلال العنصرية وإعادتها ألى أبويها الشرعيين الوحيدين ، العدل والحرية، وذلك بمنع المشروع الكولونيالى الإسرائيلى فى الضفة الغربية وقطاع غزة من الاستمرار تحت غطاء عملية السلام التى أفرغها القادة الإسرائيليون من أى معنى أو مضمون.

إن أيدينا الجريحة مازالت قادرة على حمل غصن الزيتون اليابس من بين أنقاض الأشجار التى يغتالها الاحتلال، إذا بلغ الإسرائيليون سن الرشد واعترفوا بحقوقنا المشروعة كما عرفتها قرارات الشرعية الدولية، وفى مقدمتها حق العودة والانسحاب الكامل من الأراضى الفلسطينية المحتلة فى عام 1967 و حق تقرير المصير فى دولة مستقلة ذات سيادة، وعاصمتها القدس، إذ لا سلام مع الاحتلال ولا سلام بين سادة وعبيد.

…………………………………..
…………………………………..

طريق الحرية هو طريق الانتفاضة حتى التقاء التوءم الخالد الحرية والسلام، سلمت يد محمود درويش وسلم عقله الذى لم يفسده العدوان والظلم عن رؤية الطريق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى