مبدأ بوش وسباق بين الطغاة والمتطرفين

القمة العربية، التى انتهت السبت الماضى فى شرم الشيخ، كانت قمة مثيرة، ستبقى فى الذاكرة طويلاً، ليس للتشويق الدرامى، الذى سبق انعقادها بين المؤيدين والمعارضين والباحثين عن القمة العادية أو الاستثنائية، أو دمج القمتين معاً، أو للحوارات الصدامية بين زعيمين، أو للمبادرة المقدمة من الشيخ زايد بن سلطان، التى طالب فيها بشجاعة بتنحى الرئيس العراقى صدام حسين،
ودخول الجامعة العربية والأمم المتحدة فى حكم انتقالى للمصالحة بين العراقيين تجنباً للحرب، وإنما لكل ذلك معاً، وللرسالة المهمة التى نقلتها للعالم والمجتمع الدولى، خاصة للأمريكيين، لحثهم على تجنب الحرب، وللعراقيين لمطالبتهم بالالتزام الحاسم بقرارات الشرعية الدولية، ونزع الأسلحة نزعاً شاملاً، وليس بالقطعة اللافت فى قمة شرم الشيخ هو قبول العراق بقرارات القمة دون تردد،
وهو بذلك يسير فى نفس النهج الذى قبل به العراق، قرار مجلس الأمن 1441، الداعى إلى نزع أسلحة الدمار الشامل عبر لجان التفتيش الدولية، حتى موافقته على تدمير صواريخ صمود 2، ثم اللغة التى يتحدث بها الفريق عامر السعدى، فى مؤتمراته الصحفية، تلك اللغة الدبلوماسية الراقية للغاية، التى كسبت فى اعتقادى الرأى العام العالمى، وأنهى بها مرحلة لغة العنتريات، ويبدو أن هناك فريقاً فى إدارة الرئيس العراقى،
بدأ يسلك نهجاً علمياً ليكسب الرأى العام السياسى، ويمرر هذه الأزمة العالمية على خير، ولولا بعض الهنات وعودة لغة الشتائم من قبل وزير الخارجية العراقى د ناجى صبرى الحديثى، عندما تناول مبادرة أو اقتراح الشيخ زايد بن سلطان بحل الأزمة العراقية، لقلنا على الفور إن هناك لغة عراقية جديدة، تتناسب مع الحدث الجلل الذى تعيشه بغداد، وسوف يترتب عليه مصير المنطقة العربية لسنوات قادمة نعود إلى قمة شرم الشيخ وتأثيراتها التى ستبقى طويلاً، فقد خاطبت الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية والعراق بـ لا قاطعة ضد الحرب،
لأن العرب يعرفون ويجب أن يعرف الآخرون أيضاً أن الحروب لا تحل المشاكل بل تعقدها، فبرغم عدم معرفتنا بدقة ما هى الغاية الأمريكية من وراء الحرب، ولنكن حسنى النية، ولنصدق أنهم لا يستطيعون أن يثقوا فى النظام العراقى، وأنهم يريدون التخلص منه بالفعل، حتى يكشفوا كل أسلحة الدمار الشامل لديه، وهناك الكثيرون فى العالم العربى مثلهم مثل الأمريكيين، بل داخل الشعب العراقى نفسه،
لا يثقون فى النظام العراقى، ويرغبون فى تغييره، ولكن ليس بأى ثمن، وليس بتعيين حاكم عسكرى أمريكى على بغداد، بعد قتل العديد من الأبرياء المدنيين، وربما إحداث كارثة بيئية جراء حرق آبار البترول، ومن المؤكد أن ذلك سيتم ليس من خلال الاستخدام الانتقائى المحتمل للأسلحة النووية، التى تفكر فيها إدارة بوش ملياً وإذا كنا نعترف بأن زمن الغاية تبرر الوسيلة هو من نصيب الأنظمة الفاشية والايديولوجيات الشمولية، فقطعاً أنه ليس كذلك بالنسبة للأنظمة الديمقراطية فإن الوسيلة ليست أقل من الغاية إن الحرب قد تؤدى إلى تغيير النظام فى العراق،
لكنها بدلاً من تحقيق الديمقراطية، فإنها ستؤدى إلى الفوضى التى هى عدو الديمقراطية، فى أرض مازالت تعانى من الانقسامات القبلية والعرقية والدينية، وإذا اعترفنا جميعاً بأن صدام حسين زائل، وبقاءه فى الحكم كل هذه السنوات كان بسبب سياسات خاطئة من واشنطن التى أيدته عقدين كاملين، فى أثناء حرب طاحنة ضد إيران، التى دفعه إليها غروره وطموحه الشرير، ورغبته الكامنة فى توريط إيران فى حرب طويلة مريرة تليها عن تصدير شعارات الثورة الإيرانية وجموحها غير المشروع، وبالرغم من أننى أحمله أخطاء هذه الحرب ضد إيران وغزوه الكويت، وأنه يجب أن يدفع الثمن، فإننى لا أرى الطريق إلى ذلك يتم عبر الحرب المدمرة والشريرة، التى ستصيب العراقيين والخليج فى مقتل، لأن الحضارة والشعب العراقى باقيان،
مهما طال حكم صدام فى العراق فبعد عقود من الصراع سوف تحتاج المنطقة ليس إلى حرب كاسحة أخرى، ولكن إلى الاستقرار، حتى تتقدم نحو الديمقراطية كماً وكيفياً وذلك يعنى كما طالبت قمة شرم الشيخ، احتواء انتشار أسلحة الدمار الشامل فى العراق والمنطقة بأسرها بما فيها إسرائيل وتدعيم الحرية والإصلاح التدريجى، لأنه من المفروض أن تقوم الديمقراطية على أفراد يوافقون بحرية،
وأن يأخذوا على عاتقهم المسئولية المدنية نحو بعضهم البعض، ونحو المجتمع المدنى أما الطغاة مثل صدام فيخسرون، عند إلحاق الهزيمة بالخوف من الشمولية فى قلوب وعقول الشعب الذى يجب أن يكون العامل الحقيقى للتغيير الديمقراطى ولكن إذا لم يتم منح القيم الديمقراطية الوقت لتترسخ فى المجتمع العربى، فإن الطغاة سيتم استبدالهم بالمتطرفين الإسلاميين، الذين ينافقون الديمقراطية للوصول إلى السلطة، فى ظل تلك الحال أصبحت المنطقة العربية فى سباق بين الطغاة والمتطرفين، وأن أمريكا بدلاً من أن تساند الديمقراطية،
كما تعلن فى مبدأ بوش، تحرث الأرض ليفوز المتطرفون ويسيطرون على المنطقة، فأمريكا يجب ألا تكرر أخطاء الزمن الاستعمارى، أو تكرر أخطاء أوروبا القديمة، التى أدت محاولاتها للسيطرة على المنطقة إلى قتل الملايين أمريكا يجب أن تنأى بنفسها عن عقيدة الحرب الوقائية وسياسات إسرائيل التى فشلت فى النهاية فى إحلال السلام أو الأمن لشعبها، رغم الفرصة الثمينة التى أعطاها لها العرب والفلسطينيون للآن وللمستقبل فواشنطن لديها تاريخ طويل من ازدواجية المعايير فى المنطقة، وعليها الآن أن تغلق ملف العراق وتتركه للشعب وللمنطقة،
وهو أصبح لا يستطيع أن يعيش بدون تغيير وتطوير للعراق، وفتح الباب للديمقراطية واستيعاب كل القوى، بعد أن أصبح صدام رجلاً مريضاً بل أكثر من ذلك أصبح خيال مآتة ومثلما فقد احترامه ومصداقيته سيفقد سلطته وهنا يجب ألا تساند أمريكا الإرهاب، لأن أى نظام عراقى سيأتى بالحرب، لن يكون محركاً للتغيير الديمقراطى، فهو نوع من لعبة الدومينو المعاكسة، بل إننى لا أبالغ عندما أقول إن مشروع العراق سيتحول بكل سهولة إلى ضابط متطوع لأسامة بن لادن الذى يتصاعد طالعه السياسى مع اقتراب الحرب إن مبدأ بوش الذى يعمل عليه ليدخل به التاريخ،
لن يكون بديلاً لوعد بلفور أو لنظرية الستار الحديدى لتشرشل، ولن يكون طريقاً مفروشاً بالديمقراطية أو صناعة التاريخ عبر بغداد، ولكن نحو الدولة الفلسطينية وتسليم القدس للمسلمين الفلسطينيين، وإحداث مصالحة تاريخية فى المنطقة، تقول للإسرائيليين سلموا الأرض المحتلة، وكفوا أيديكم عن الشعب الفلسطينى، هنا يستطيع بوش أن يبدأ طريقه نحو مستقبل حقيقى، وليس مستقبلاً مجهولاً يفتح للمنطقة باب اليأس والتشاؤم والخوف، الذى سوف ينتشر بين الجميع، عرباً وأمريكيين، فهل هناك عقلاء يسمعون هذه الكلمات؟ القمة العربية قالتها، بحكمة واقتدار، ولكن الباب مازال مفتوحاً، والأيام القادمة حبلى بالتطورات
