معنى اختيار العرب مصر لمجلس الأمن

كانت لحظة مثيرة وسعيدة بالنسبة لى عندما أخبرنى عدد من وزراء الخارجية العرب، عقب خروجهم من أحد الاجتماعات التمهيدية للقمة العربية فى الجزائر، بأنهم اتفقوا دون خلاف على تدعيم ترشيح مصر ممثلة للمجموعة العربية، سواء كانت إفريقية أم آسيوية، للعضوية الدائمة فى مجلس الأمن فى حالة توسيعه فى إطار المشروعات المقترحة لتطوير وتحديث الأمم المتحدة، وذلك على اعتبار أن منطقتنا الشرق أوسطية العربية مميزة فى الثقافة والهوية، ومكانتها ترشحها ليكون لها تمثيل دائم فى مجلس الأمن.
كان مبعث هذه الإثارة هو أن العرب لم يتوافقوا منذ زمن طويل على قرار مهم، فقد كانوا جميعا يدخلون متنافسين فى المحافل الدولية، مما يجعلهم خاسرين دائما أمام الآخرين.
ولعلهم أخيرا أدركوا مخاطر التنافسات المتنامية فيما بينهم، وأعترف بأن هذا الإدراك جاء بفضل حكمة الدور المصرى وقدرته على الدفاع عن المنطقة، ومصالح شعوبها، فمصر بطاقتها تملك الرؤية والمقدرة على تمثيل إرادات ومصالح وشعوب منطقتنا، فقد أصبحت بمثابة الناطق، ليس الرسمى باسم الجميع فقط، بل باتت هى قلب الضمير الوطنى المدركة لمصالح الشعوب العربية.
وقد ظهرت لحظات الصدق العربى عند اتخاذ هذا القرار، وهى من لحظات إيثار نادرة للشقيق، عندما يعطى حق شقيقه، ويعترف بأنه قادر على تمثيله والتعبير الدقيق والأمين عن مصالحه.
ولن نكون مبالغين عندما نقول إن سياسة مصر المحلية والإقليمية والعالمية، تضع دائما المصالح العربية أمامها قبل اتخاذ أى قرار أو تحرك سياسى، ويكفى هنا أن نذكر بأهم قضية مركزية فى تاريخ العرب الحديث، وهى القضية الفلسطينية، فقد كانت محور السياسة فى مصر ومناط تركيزها، وعندما اتخذت مصر قرارا إستراتيجيا بحل الصراع العربى الإسرائيلى بالطرق السياسية والدبلوماسية، كانت هناك ورقتان مصرية وعربية ربطتا الحل الشامل بالسلام الإقليمى، وقيام الدولة الفلسطينية، وظلت تلك السياسة حاكمة لمسار السياسة المصرية.
ولعل كلمة تطبيع السياسة أو العلاقات مع إسرائيل، وربطها عمليا بالانسحابات الإسرائيلية، والاعتراف بحق الفلسطينيين فى قيام دولتهم، أهم إشارة إلى موقف مصر، فقد ظلت راعية وحامية للفلسطينيين.
ويشير الحوار الفلسطينى الفلسطينى الأخير فى القاهرة فى حضور الرئيس الفلسطينى محمود عباس، وكل الفصائل الفلسطينية على اختلاف تنوعاتها وانتماءاتها، إلى أن كل شئ تغير، وأصبح الانتماء وفلسطين فقط تحت عباءة القاهرة لحماية القضية والدولة حتى من نفسها، وتتحرك القاهرة على كل صعيد وفى كل اتجاه، وليس أمامها من هدف إلا مصالح الفلسطينيين ودولتهم.
وقد تحملت فى سبيل ذلك كل ألوان العنت والاتهامات، لكن كل شئ يهون الآن، فقد اعترف الأشقاء بمكانة ودور الشقيق الأكبر، وأنه لا يعمل إلا بوحى من الضمير ولصالح جميع الشعوب العربية.
قد لا يثمر هذا الاختيار، سواء بعدم تنفيذ برامج التعديلات أم بسبب ظروف المجتمع الدولى، وقد تتجه المنظمة الدولية لاختيار قارى، ولا تعطى الشرق الأوسط والمنطقة العربية، رغم تميزها وأهميتها الإستراتيجية موقعا فى مجلس الأمن، وقد تكون الأوضاع فى القارة الإفريقية التى ننتمى إليها وحدة التنافسات القارية سببا فى اختيارات أخرى غير مصر.
لكننى أعتقد أن مصر قد فازت فعلا بما ترنو إليه، وهو أنها تكون ممثلة فى التعبير عن منطقتها وشعوبها العربية، وأن سياسة مصر كلها منخرطة فى المسار العربى، وصراعات شعوبنا العربية، ومنطقتنا كانت محورا للحروب والأزمات الطاحنة طوال الثمانينيات والتسعينيات، وما قبلها.
فالقضية الفلسطينية شهدت وتشهد تطورات متلاحقة، وثورات وانتفاضات لا تنتهى ومعاناة الشعب الفلسطينى طويلة ومريرة على مدار أكثر من خمسين عاما لم تتوقف، وانشغلت بها الدبلوماسية والسياسة المصرية، ثم جاءت كوارث حروب الخليج، والتى انتهت باحتلال أكبر قطر عربى وأكثرها تأثيرا هو العراق، ثم ظروف الحرب على الإرهاب وتداعياتها التى أثر ت على سمعة العرب والمسلمين فى السنوات الماضية، وجعلتهم متهمين من كل دول العالم.
هذا المناخ السياسى والإقليمى الصعب، التهم القدرات المصرية، بل كاديشل حركتها فى كل الاتجاهات، حتى فى مجالاتها الحيوية وأهمها إفريقيا، تلك القارة الحبيبة التى كان للسياسة المصرية أثر مباشر فى تحريرها من الاستعمار، والأهم دور مصر فى الدفاع عن إفريقيا ضد التمييز العنصرى، حتى تحررت جنوب إفريقيا، أهم البلدان الإفريقية الآن، وأكثرها تأثيرا فى القارة الحبيبة.
وانغماس مصر فى مشاكل منطقتنا العربية وفى الشرق، أضعف دورها الإفريقى، بل دورها فى العالم الثالث، وهى التى كانت رائدة فى سياسة عدم الانحياز، أثناء حقبة القطبين.
لكن ما فعلته مصر لمنطقتها العربية لم يضع هدرا، فها هو الاعتراف يأتى بأن مصر هى الأكثر صلاحية وقدرة على تمثيل منطقتها فى مجلس إدارة العالم، أى مجلس الأمن.
قد لا يحدث الاختيار، وتختار إفريقيا »جنوب إفريقيا ونيجيريا أو غيرهما«، لكن الاعتراف العربى بدورها ومكانتها، أثلج صدرى، وجعلنى أدرك أن عمل مصر السياسى من أجل أشقائها كان فى مكانه الصحيح، وعسى أن تدرك إفريقيا أن دور مصر فى قارتها لم ولن يغيب إلا لظروف وأوضاع قاسية ومرت بها شعوبنا العربية. فمصر دولة لم تقل عن نفسها إنها عظمى، وليست ذات موارد كبيرة، فهى دولة كثيفة السكان، ومواردها زراعية ومحدودة، لكن طاقتها السياسية وموقعها وتاريخها وجغرافيتها أتاحت لها مكانة، وروحا من العطاء لشعوبها ومنطقتها وقارتها، لكنها تختار عند الأزمات والكوارث، أن تكرس دورها للإنقاذ، وهذا ما فعلته عند أزمات التحرر الإفريقى ثم عادت وكرست سياستها عربيا بما جعلها تقصر فى دورها الأول، وقد تدفع ثمن هذا التقصير الآن، عند الاختيار إفريقيا، لكننى أشعر بأن الاختيار عربيا يكفينى، حتى ولو لم يتحقق على أرض الواقع.
ولأننى لا أرى للأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولى دورا فعالا، فى المرحلة المقبلة، فلم أتحمس للسياسة المصرية الرامية للبحث عن عضوية مجلس الأمن، فهذا المجلس لن يكون له أثر فى المستقبل نتيجة بناء نظام دولى مختلف، لكننى أشعر الآن بأن مجرد اختيار العرب لمصر هو ثمن يكفى لسياستها، فقد جاء تقديرا لحكمتها ودورها فى السنوات الماضية، وعطائها وتركيزها من أجل شعوبها، حتى لو كانت تدفع ثمنه محليا على صعيد سياستها الداخلية.
لقد حصلت مصر على تقدير معنوى كبير، وهو اعتراف أشقائها بتأثيرها، وأدعو الدبلوماسية المصرية إلى أن تكون قادرة على شرح لماذا قصرت إفريقيا رغم تاريخها الطويل فى هذا المضمار، وأن تعود من جديد لقارتها بسياسة جديدة تفهمها القارة وشعوبها، لأن إفريقيا فى حاجة إلى النهوض سياسيا واقتصاديا، وهى مجال حيوى لمصر لا غنى عنه، كما أنها مجال حيوى للعرب لا غنى عنه، ولعل اعتراف قمة الجزائر بأهمية الحوار العربى الإفريقى ويأخذ أبعاد عملية على أرض الواقع لتيترجم تلاحم هذه المنطقة من العالم، وضرورة إدماجها فى السياسات العالمية الجديدة.
قمة الجزائر الدورية الخامسة، أكدت لى معانى كثيرة، هى أن مؤسسة القمة عندما تجتمع تصبح قادرة على ترجمة وقيام كيان إقليمى مؤثر فى عالمنا المعاصر، ولعل آلية المتابعة للقرارات التى تصدرها القمم، تكون خطوة تنفيذية ذات أثر عميق على مستقبل العرب.
لكن الأهم الذى يجب أن نركز عليه هو الإصلاحات الداخلية لكل قطر عربى حتى يكون واحدا صحيحا فى عالمنا المعاصر، فيسهل جمعه والتعبير عنه، ما أقصده هو الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تحدث فى كل قطر عربى، ثم التحرك نحو إقامة بنية أساسية قوية لنظام إقليمى، وهو طريق طويل، لكن العقلاء يدركون أهمية التنفيذ والعمل والتخطيط، وليس الكلام وحده.

