مقالات الأهرام العربى

كيف نقف مع أنفسنا؟

الجثث فى العراق أصبحت تلالا، والمؤشرات تقول إنه فى كل ساعة يسقط عراقى، ضحية لعدوان أمريكى أو سيارة مفخخة، أو مذابح جماعية، أو بسبب قتال محتدم أو حتى رصاصة طائشة، وأصبحت أشهر يوميات عراقية تدور حول محور واحد هو الموت.

وتتناقل وكالات الأنباء خبر الجثث التى تشابهت، حتى أصبح صعبا التفريق بينها، لتسليمها إلى ذويهم، فيبكى الابن أباه أو أخاه، والابنة أباها أو أخاها، والزوج زوجته، أو العكس، وعند لحظة الوداع الأخيرة يكتشف أنه يبكى ويدفن جثمان آخر، فيعودون بحثا عن فقيدهم.

ولعل جثمان الموظف البسيط نورى، والموظف الرفيع غرى، اللذين تبادلتهما أسرتان مختلفتان، وكان الجثمانان قد خرجا من مستشفى اليرموك، وكلاهما ينتمى إلى عائلة لا تخصه، هذه الحادثة ليست هى الوحيدة فى عراق اليوم إنما البكاء المستمر، الذى جعل الموت حدثا متكررا، والخوف كل الخوف من أن يفقد الموت جلاله، والحزن النبيل معناه، فتضيع قيمة الحياة ومعناها، ويصعب استردادها بعد ذلك، إنها مأساة أن يتحول بلد عريق إلى مصنع للخوف والموت، ولحظتها يصبح الإرهاب والدمار سهلا، ولكن على من تقع المسئولية؟ ألا تقع على من أشعلوا هذه النيران التى لا تتوقف، وأخرجوا من تحت الرماد أساطير قديمة عفا عليها الزمن.

وسط هذه الصورة الدموية التى تدعو الجميع إلى الصمت وتأمل حجم المأساة وتركيز الانتباه للخروج منها، نجد السياسيين يتجادلون بلا نهاية، ليس فى العراق محور الأزمة ومركزها، لكن فى كل العالم العربى، والأخطر أنهم يتنافسون على المراكز والحصص الوزارية والحقوق السياسية، بينما الموتى يتساقطون، ومنهم بعض هؤلاء الوزراء والنواب المتجادلين، فهل فقدنا العقل أم لم نعد ندرك ماذا يحدث حولنا؟

فالمنطقة تشتعل، وأهل الدار يلهون، والمسئولون عن الكارثة يتحدثون عن الديمقراطية، ربما يرونها مسرحا أو ملهاة، حتى يتجادلوا حولها، بل يتشاجروا على رءوس الجثث ووسط الجنازات الجماعية للراحلين.

والموقف جد وليس هزلا، بينما نحو المتضررين وأهل الكارثة التى حلت بأراضينا لا ندرك حقائق الموقف، وماذا نعد للمستقبل، هل نحرث الأرض لأبنائنا أم لأنفسنا؟ كيف نحيا وسط عالم الموت؟

كارثة العراق الراهنة أصبحت أكبر من الحرب الأهلية المنتظرة، أما أحاديث السياسيين العراقيين والعرب والأمريكيين فلا ترقى إلى مستوى الحدث، فهم يتكلمون عن زخم العملية السياسية ورفاهية ضم العرب السنة الغائبين لإعداد دستور جديد لحياة سياسية مرتقبة، وبين هذا وذاك تختلط الأمور

لكن العراق الدامى ليس وحده، فهناك السودان الذى لم يكد يتوقف عن أطول حرب أهلية فى إفريقيا بين الشمال والجنوب، حتى أطلت عليه أطول كارثة إنسانية فى العصر الحديث فى دارفور غرب السودان، وإذا كان الموت أصبح ثمة بارزة للعراقيين، فإن التشرد للسودانيين هو الأبرز بعد الموت، فهناك 2.4 مليون شخص ما بين مشرد وجائع، فأصبحنا أمام أحداث سودانية تربك العقل وتدعو إلى اليأس، وفاقت قدرة السودانيين أنفسهم، وأهل المنطقة بالكامل

أما الفلسطينيون، كما هو معروف، فقد خرجت الانتفاضة الباسلة بالسور الإسرائيلى الذى يحيط بأراضيهم كالسوار حول المعصم، وبـ 57 عاما على تأسيس دولة إسرائيل، فى وقت لاتزال فيه الدولة الفلسطينية تتخلق فى رحم الأحداث وفى علم الغيب، رغم أن الكل يتحدثون عنها، بعد أن حصلت على الاعتراف الدولى، ولكن لا يعلم أحد متى ستتم ولادتها كجنين صغير، يحتاج إلى سنوات طويلة حتى يشب عن الطوق، وسط عالم ومناخ محلى وإقليمى وعالمى لا يحمل مؤشرات إيجابية لنمو صحى متعافى للوليد المنتظر أو الدولة المقبلة.

وهكذا الموقف فى سوريا، فمازالت الشام تنتظر تحرير الجولان، وأيضا لبنان الذى لم تكن سيادته مرهونة بالانسحاب السورى وحده، إنما بالسياسيين، فهم يتجادلون ويتحدثون عن الوحدة الوطنية وإنهاء الطائفية، فى وقت يقومون فيه بتكريسها ولا يستطيعون البعد عنها خطوة واحدة، وسارت ديمقراطيتهم مضربا للأمثال فهم لا يحققون منها شيئا، ولا يطالبون بإنهاء الإقطاع السياسى، وسطوة العائلات، بل يكرسونها، ويسيرون على منهج الدولة القديمة التى حاربت بعضها يوما ما.

كل هذه الدروس ماثلة أمامنا، ونكررها، ورغم أننا نعرف الطريق الصحيح، فإننا نسير فى عكسه، وهكذا يتحدث الكل بلغة غير واقعية

أما فى الخليج الذى يعوم على بحيرة من البترول فينتشر فيه التطرف وتزداد المخاوف، وكذلك اليمن الذى يواجه صعوبات فى الاقتصاد وإشاعة التطرف، وكذلك المغرب العربى يحاول الخروج من الأزمات، وبين هذا وذاك أصبح الإصلاح يعنى تفكيك الدولة القطرية، والكلام بلا توقف، والسياسة ليم تعد حكما ومعارضة يتعاونان، بل »خناقة« كبرى، وقد تخندق كل طرف لاصطياد المنافس.

إنها حرب الإرهاب والتطرف والمتأسلمون يقفون خلفها مستفيدين، فهم ضد الدولة الحديثة والعالم المعاصر بكل أطرافه، ويقف طرف خارجى يتحدث عن مسلمات الإصلاح والتبشير بالديمقراطية، بينما هو يضربها فى مقتل، ويعامل مقدساتنا كأسوأ ما يكون، وأصبحت المخاوف تنمو فى كل العالم العربى، فمن صنع كل هذه »الديلمة« الصعبة؟

أما الرأى العام فأصبح يرى الصورة سوداوية، وتستهويه إهالة التراب على كل ما يحدث، رغم أن أخطاء السنين اشتركت فى صناعتها الشعوب والحكومات، كما أن هناك سياسيين ومحللين وحكاما ونخبا مازالوا يجرون وراء السراب الخادع، وقد خدعتهم اللغة والسياسات الخاطئة.

ولكننى أكاد أرى أن مخرج المنطقة العربية يبدأ من مصر القوية المتماسكة، القادرة على تقديم أفكار جديدة للمستقبل، وهى تحاول أن تضع سياسات اقتصادية للنمو، وتبنى نظاما سياسيا تعدديا، وتضع دستورا جديدا يسمح بتداول السلطة، ولكن نخبها السياسية فى حاجة إلى اليقظة، لإيقاف التدخلات الخارجية، وفهم تأثيرات المنطقة وتداعياتها، وتسير فى معدلات متسارعة، لكى تنقل عدوى الاستقرار والتغيير المحسوب والعلمى إلى المنطقة، فتعيد الثقة إلى شعوبها، واليقظة إلى مسئوليها.

فمصر كما هى، وقيادتها الحكيمة هى التى صنعت السلام الإقليمى رغم صعوباته، وأعادت الأراضى، وتحاول استكمال مهمتها مع العرب والفلسطينيين، فمحاولاتها لم تتوقف مع الأشقاء على هذا الصعيد، وأصبحت مسئوليتها اليوم أصعب فكيف تعيد اليقين إلى أمنها، والاستقرار إلى شعوبها، وتخرج بها من المأزق؟

صحيح أنها لم تصنعه ولم تكن مسئولة عنه، وحاولت أن تقف ضد الانهيار، لكنه حدث، وعلىها اليوم أن تعيد الثقة إلى الجميع، ولذلك لابد أن تبدأ بنفسها، وعلينا جميعا عربا ومصريين أن نقف مع أنفسنا، فليس لنا ظهر آخر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى