مقالات الأهرام العربى

الديكتاتور مظلوما

باتت المحاكمة التي تجري الآن للرئيس العراقي السابق صدام حسين و زمرته أزمة سياسية وقانونية وأخلاقية، خاصة مع وجود تضارب واضح بين قوانينها الخاصة والقوانين الدولية والمحلية، وربما كان من الأجدر بنا مع كل ما أثير وما يثار حول محاكمة الرئيس العراقي السابق أن نعترف أولا بأن أي حكم ستقرره المحكمة في شأنه هو حكم سيفتقد إلي العدالة التامة والنزاهة، وأنه لا يمكن بأي حال أن يكون حكما عادلا فالمحكمة شئنا أم أبينا هي محكمة لها ملابسات خاصة شديدة التعقيد، فهي محكمة عراقية ظاهريا، أمريكية في جوهرها مادام العراق لايزال واقعا بالفعل تحت الاحتلال الأمريكي، وأن الولايات المتحدة هي التي تتولي تمويل القدر الأعظم من المحاكمة ثم علينا أيضا ألا نغفل أن الحكم الذي سيصدر علي الدكتاتور السابق معروف سلفا، وأنه اتخذ قبل أن تجري تلك المحاكمة المسرحيةفالرجل سيعدم في جميع الأحوال، ولن يمنح فرصا أخري للحصول علي أحكام مخففة، مثل تلك التي نالها من قبله أبرز ديكتاتوريي العصر الحديث، بل إنه لن ينال حتي ميزة أن تجري له محاكمة صورية كالتي نالها من قبل الرئيس العراقي الأسبق عبد الكريم القاسم والتي لم تتجاوز عشر دقائق نال بعدها راحة إعدامه الفوري، دون معاناة هوان وذل الانتظار، وهو لن ينال حكماً مخففا يتلخص بهدوء في إسدال الستار علي عهده الدموي، كما أنه لن ينال ميزة إرجاء المحاكمة بسبب كبر سنه وضعف حالته الصحية، كما حدث من قبل مع ديكتاتور بولندا الجنرال ياروزلسكي، ولن ينال حكما بالسجن يحدث بعدها عادة أن يخلي سبيله بفترة قصيرة، كما حدث مع واحد أبرز الزعماء الشيوعيين السابقين لألمانيا الشرقية وهو إيجون كرينتس الذي نال عام 2001 حكما بالسجن لستة أعوام علي مجزرة شبيهة بمجزرة الدجيل ولكن سبيله أخلي بعد أربعة أعوام فقط، أو الدكتاتور الدموي بوكاسا إمبراطور إفريقيا الوسطي المزهو بنفسه الذي نال في النهاية حكما مخففا بالسجن عشر سنوات، ثم أطلق سراحه بعد سبع سنوات فقط، وعند وفاته وصفت وسائل الإعلام مشواره السياسي الدموي بـ»المشوار اللامع«، في حين أن عيدي أمين ديكتاتور أوغندا لم يواجه أي نوع من المطاردة القضائية، وعاش آمنا في منفاه الأخير في المملكة العربية السعودية، وهو نفس المصير تقريبا الذي ناله ديكتاتور هاييتي المريع دوفالييه الذي لم يكتف بالمجازر التي قتل خلالها أبناء شعبه بل إنه أقام حفلا أخيرا قبل رحيله الآمن إلي منفاه الفرنسي، وهذا أيضا ما ناله ديكتاتور إثيوبيا الكولونيل منجستو الذي تمكن من الهرب إلي منفي اختياري في زيمبابوي.

وبالطبع فإن بعض الديكتاتوريين نالوا محاكمات دولية علي يد المنتصرين، كما حدث مع قيادات النازي في محاكمات نورمبرج التي أقامها الحلفاء عقب انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، وبعضهم لم ينتظر صدور الحكم بل أسرع بإصدار حكمه الخاص وقرر الانتحار.

الحال مع هذا الديكتاتور المسكين له وضع خاص فهو قبل أن تصدر المحكمة في النهاية حكم إعدامه علي أكثر من سبع تهم منها اغتيال خصومه السياسيين ومجزرة الدجيل 1982، وجرائم إبادة الأكراد عام1988، وغزو الكويت1990، وقمع انتفاضة الأكراد والشيعة1991، كان الديكتاتور العراقي السابق قد أحرق بنفسه من قبل جميع سفنه وحكم علي نفسه بالموت سلفا عندما أسرف في فعالاته في غيه وتجبره وتعامل مع أبناء شعبه كقطيع من الماشية، وجرهم جرا نحو عقود من العذاب والفقر، لقد حكم صدام علي نفسه من قبل بكراهية لا سبيل لمواجهتها اليوم من مواطنيه الذين لم تخل لهم دار إلا وعانت من جبروت نظامه، وحكم علي نفسه بالموت عندما تحدي جميع المعايير الأخلاقية والدبلوماسية واعتدي علي أمن وسلام جارته الكويت دون وجه حقوتجاهل نصائح العقلاء الذين سعوا إلي تخفيف حدة جموحه وعناده، وحكم علي نفسه بالإعدام مسبقا عندما آمن بأنه لا سبيل للتعامل مع الرأي الآخر سوي إسكاته للأبد، وكذلك عندما قرر أن يتقمص روح وشخصية ديكتاتور غارسيا ماركيز في رائعته خريف البطريرك وظن أنه سيظل يعزف علي نفس الآت الرعب نفس الأناشيد الوحشية وسيعمر في سلطانه أكثر من مائتي عام دون أن يؤمن بأن النهاية مهما طالت ستكون موتاً حقيقياً وسقوطاً للديكتاتورية .

الواقع أن صدام حكم علي نفسه بالإعدام عندما جعل الأمور تصل إلي حد القبض عليه هاربا في حفرة، وفتح الباب لقوات الاحتلال لوضع يدها علي وطنه الذي تغني به وبالأمة العربية وينشد تحيا العراق وتحيا الأمة العربية، ولايزال يتمسك حتي وهو في قاعة المحكمة بجنون العظمة وتجاهل الحقائق التاريخية ويصر علي أنه لم يمد يده علي عراقي متجاهلا أنه مد أيدي من حوله لاغتيال العراقيين و تصفيتهم جسديا ونفسيا.

في جميع الأحوال ندرك جيدا أن محاكمة الرئيس العراقي المخلوع ما هي إلا تصفية لحسابات أمريكية جديدة، ولحسابات عراقية قديمة، وندرك أن جميع الملابسات الداخلية و الخارجية المحيطة بتلك المحاكمة لا يمكن أن تضمن في النهاية محاكمة نزيهة، وهو الأمر الذي أكده رمزي كلارك أحد محامي الرئيس المخلوع ووزير العدل الأمريكي السابق الذي أشار إلي أن عدم تأمين الحماية اللازمة لهيئة الدفاع عن صدام كفيلة باستحالة إجراء محاكمة عادلة، وبلا شك فإن محاكمة صدام سوف تزيد الأمور تعقيدا، فحتي لو اعدم سيظل الشارع العراقي متأججا بالصراعات والنزاعات لأن التاريخ والشعب العراقي لن ينسي أبدا أن محاكمة رئيسه السابق جاءت في ظل الغزو الكارثي لأرضه، وأن العالم تجاهل بديهية أن تكون محاكمته في أقل تقدير محاكمة دولية في إطار القانون الدولي لمجرمي الحرب.

وهو القانون الذي يجب أيضا أن يحاكم الغازين الذين قتلوا عشرات الآلاف من أبناء العراق دون ذنب جنوه سوي أنهم كانوا شعباً عاني علي مدار عقود من حكم دكتاتوره الأوحد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى