مقالات الأهرام العربى

الحلم الأوروبي والسلام الأبدي

الوجود في أوروبا أشبه بالوقوف أمام متحف عملاق مليء بالكنوز والذكريات، قد يكون بعضها مرير يحمل معه لقطات من العصور الاستعمارية القديمة وحروبا دامية طويلة، وبعضها الآخر فريد في روعته، حيث يفتح لنا العالم القديم أذرعه ليستقبلنا بعطور من عبق الماضي، تحمل الكثير من الحميمية، وتفاصيل تاريخ حضارة مدهشة .

تجربة الوجود في أوروبا اليوم أصبحت، بلا شك، تجربة ثرية بكل المقاييس، فأنت تتعامل مع حضارة ضخمة، تحترم بصدق تام حضارات وثقافات الآخر، وعندما تتعامل مع المواطن الأوروبي، فأنت تتعامل مع إنسان قادر علي الدخول معك في حوار بناء، ومهما اختلفت معه واختلف معك، فإنه من الحكمة والعمق بحيث لا يجعل هذا يفسد بأي حال الهدف الأهم ألا وهو إنجاح الحوار .

كان أن أتيح لي مرة أخري خلال الأيام السابقة أن أعود لتأمل تطورات المجتمع الأوروبي الجديد بمزيد من التمعن والتفكر وذلك عندما رافقت الرئيس مبارك أخيراً في جولته الجديدة لألمانيا وإيطاليا .

فمما لا شك فيه أن من يتردد حاليا علي دول الاتحاد الأوروبي يمكنه بسهولة أن يعقد مقارنات عديدة بين حالها منذ عقد واحد مضي ووضعها الآن، وأيضا بين ما تسعي هي لتحقيقه وما تسعي الولايات المتحدة لإنجازه حيث يمكنك دون بذل جهد كبير أن تلحظ انشغال أوروبا بالإعداد لعصر جديد وكيف أن شبابها يكافحون اليوم لتحقيق ما يطلق عليه المحلل الأمريكي جيرمي ريفكين »الحلم الأوروبي«، والذي يتوقع في كتابه الذي صدر بنفس الاسم أن يتفوق علي الحلم الأمريكي لأنه أكثر قدرة علي إلقاء نظرة موضوعية علي الغد .

إن أوروبا القرن الجديد أصبحت حقيقة لا يمكن الجدال عليها، كما لا يمكن الجدال حول نجاحها في التوسع في علاقاتها مع العالم من حولها، وفي خلق علاقات فعالة مع معظم الدول بعيدا عن أجواء التوتر المهيمنة علي المسرح السياسي الدولي مما جعل دول العالم تبحث عن إيجاد فرص لتحقيق مصالح مشتركة والدخول في حوار جاد مع أوروبا، حيث المصالح أكثر تشابكا وتعدداً عن ذي قبل، وحيث يمكن أيضا تحقيق شراكة حقيقية تخلو من نزعات الهيمنة والإملاء التي أصبحت تسيطر علي العلاقات بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم .

وربما كان الرئيس مبارك أول من تمكن من تصور رؤية مستقبلية أدرك خلالها أهمية تعزيز علاقة مصر والمنطقة بجميع الدول الأوروبية، والتعامل بما يمليه المنطق اليوم مع أوروبا الجديدة علي أسس متكافئة، وذلك سعيا وراء خلق سلام في منطقة الشرق الأوسط وحرص الرئيس الدائم علي استقراره وربط أمنه بالأمن الأوروبي مع إدراكه اليقيني لمدي حرص أوروبا الآن علي أن يسود السلام العالم ومعرفته بأنها أصبحت أكثر قدرة علي معرفة حقيقة الأوضاع في المنطقة وإدراكه أيضا لكونها تري تلك الأوضاع بشكل أكثر عقلانية من غيرها دون أن يدفعها هذا لفرض سياسات فوقية .

اليوم لا يستطيع أحد أن يجادل في حقيقة أن أوروبا هي القائد الحقيقي للقرن الحادي والعشرين، لا لشيء سوي لإيمانها بعالم يسوده السلام والديمقراطية والرخاء، عالم تتحرك فيه الدول الصغري بنفس قدر المساواة والتكافؤ الذي تتحرك به الدول الكبري، عالم يتم فيه احترام سيادة القانون الدولي ومن ثمة العمل عبر الهياكل الدولية لتسوية الأزمات والنزاعات، ولهذا كله فقد تمكنت أوروبا من نشر أجنحتها لتصبح قوة يعتد بها علي مسرح السياسة الدولية دون أن تجلب لنفسها العداء ممن حولها .

فالاتحاد الأوروبي لم يبحث عن فرص تغيير أنظمة الدول من خلال التهديد باحتلالها، بل إن التهديد الحقيقي الذي يمكن أن يمثله يكمن، فيما يصفه مارك ليونارد مدير مركز الإصلاح الأوروبي للسياسة الخارجية في كتابه »القرن الأوروبي الجديد«، في التلويح بعدم تدخلها في النزاعات الدولية أو إعلان أنها سوف لن تمد يد الصداقة لدولة ما مما قد يحمله ضمنا من حرمانها من دخول ناديها الدولي أو بمعني آخر فرصة الدخول إلي عضوية الاتحاد الأوروبي التي أصبحت حلماً مغرياً لا يمكن التخلي عنه وهو الذي يدفع الدول إلي إصلاح أنظمتها السياسية والقانونية والاقتصادية .

إن أوروبا قد خلقت الآن معني جديداً لاستخدام القوة، ولكنها قوة من نوع مغاير للنوع المتعارف عليه إنها قوة القانون الذي أصبح يمثل السلاح السري للاتحاد الأوروبي ويلزم أي دولة ترغب في الانضمام إليه أن تحفظ عن ظهر قلب نحو 80 ألف صفحة من القوانين الجديدة التي شكلها الاتحاد، وتغطي كل مظاهر الحياة بدءا من استخدام القوة العسكرية وانتهاء بتحقيق الأمن الغذائي للجميع .

لقد أصبحت أوروبا اليوم موطن ولادة جديدة للفكرة التي أطلق عليها المؤرخ العسكري الشهير مايكل هاورد اسم »اختراع السلام« حيث قال ذات مرة إن الحرب قديمة قدم تاريخ البشرية ولكن السلام إنما هو اختراع عصري لا تتبناه سوي الدول الجريئة .

قد تكون فكرة إرساء نظام دولي نشط يؤمن بضرورة خلق سلام شبيهة بما جاء في الرؤية الكلاسيكية التي وضعها الفيلسوف الألماني عمانويل كانت في مقالته »السلام الأبدي« حيث تصور مجموعة من الجمهوريات المتحالفة والمتحدة التي تعكس أنظمتها أمنيات شعوبها التواقة إلي السلام الدائم ولهذا فإنها ترفض تماما أن تشن إحداها حربا علي الأخري .

يجب أن نقر بأن النموذج الناجح الذي يمثله الاتحاد الأوروبي في شكله الحالي يعني الكثير لمعظم سكان العالم فهو لا يبحث عن تحقيق مجتمع آمن لـ 450 مليون إنسان فقط ولكنه يعني أيضا فرصاً كامنة لتحقيق سلام لأكثر من 1.5 مليار إنسان في نحو 80 دولة مرتبطة بالاتحاد الأوروبي عن طريق شراكة تجارية واستثمارات ومساعدات إنسانية كما إنه لا يمكن تجاهل حقيقة كونها أقوي الأطراف الدولية التي تساندمنطقة الشرق الأوسط في أهم قضاياه المصيرية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى