مقالات الأهرام العربى

الجريمة بعد الجريمة

إذا كان الذين قرروا، ونفذوا جريمة قتل د سمير قصير، الصحفي والناشط السياسي وأستاذ الجامعة، اللبناني والسوري والفلسطيني، لم يعرفوا معني جريمتهم وإلي أي عنوان تتجه، فهم لم يعاقبوه، لأن الموت ليس عقاباً، فكلنا سنموت، والله لا يعاقبنا به، ولكنه يجري فينا سننه   والموت سُنة الحياة

فهل كانوا يريدون معاقبة أفكاره السياسية، وهي تدور جميعاً حول حرية العرب وقضاياهم، وكيف ينتصرون، وهي تشرح لهم الحياة في ظل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان؟

وهل كانوا يرتكبون جريمة لأنهم تعودوا علي الجرائم فلم يعودوا يفرقون في القتل

وهل وهل   نقول مثل سمير قصير في أحد مقالاته الأخيرة إنه »الخطأ بعد الخطأ«   وهل يتم قتل من كان يندد باستمرار القمع وغياب الحرية في بلادنا العربية ومن ينتمي إليها بعقله وفكره ويخدمها؟

فقصير لبناني الجنسية والعمل والحياة، وأبناؤه لبنانيون والأم فلسطينية، وهو عالمي المنهج والعمل، فقد حصل علي الجنسية الفرنسية، ووظف كل مهاراته وعمله لبلاده التي ضاعت واحتلت وللشام الذي انقسم، وأصبح الأهل أعداء يتربصون ببعضهم البعض، ويرون في أبنائهم العدو، ويترصدونهم في وقت لا يرون فيه العدو الحقيقي الذي سوف يقضي عليهم جميعاً، وهو الكامن في نفوسنا، وأعني مخاوفنا، من أن نحيا حياة صحيحة، نعم خوفنا الكامن في صدورنا من بعضنا البعض، فنحن نري العدو الخارجي، الذي أصبح أثره هامشيا وضعيفا، ونسكت علي العدو الحقيقي الكامن في نفوسنا، وكرهنا لبعضنا الذي يجعلنا كلنا »هابيل« الذي قتل أخاه، ولا يدرك أنه يزرع الجريمة في عالمنا حتي يرث الله الأرض

القاتل الجديد، ترشحه مواصفاته ومعاييره ليكون قاتل الحياة، فهو أول من يقتل نفسه، ولأن سمير قصير لا يشكل تهديداً إلا لمخاوف هذا القاتل وعدم قدرته علي أن يخرج من عقله ونفسه المهزومة، فقد سارع القاتل المصاب والمريض إلي قتل طبيبه، فهو يري الحياة في ظل المرض والهزيمة والخنوع أفضل، ولا يريد أن يخرج من نفقه أو الزنزانة التي جعلته عبداً خانعاً، ويري في من يفتح شباكاً أو طاقة من نور مختلفة، جريمة تهدد وجوده، فيسارع بالقتل ويتصوره رداً أو تشبعاً بالوجود كما يراه

والقاتل هنا ليس فرداً، ولكن أحد خلايا المرض السرطاني الذي انتشر حول رقبتنا وفي جسم أمتنا، وسوف يقتلنا جميعاً، فهو وحش حقيقي وينتشر انتشار التوحش السرطاني في الجسم، وهو خلية من خلايا غياب العقل والقانون، وضياع المؤسسات، ودولة الحقوق والمعايير وأشبه بالهواء المحبوس

لكن هذا القاتل ليس جديدا علينا، فهو يعيش بيننا وينتشر في كل مجالات الحياة ولم يتعلم أيا من الدروس التي عشناها وخرجنا منها مهزومين، فهو لا يتعلم ولا يرضي لأحد أن يتعلم، ولأن يتغذي علي الجهل، فهو يرفض أن يري المتغيرات حوله ويتصور أنها لن تطاله أو تصل إليه

إنه لم ير جريمة صدام حسين، وكيف أنها أدخلت العراق إلي نفق مظلم، لا نعرف متي نخرج منه؟

ولم ير ما يحدث للفلسطينيين، والموت الذي يحيط بهم، وحياة الفقر والضعف التي يعيشونها، ويتصور أن الحل يكمن في أن يقتل الفلسطيني نفسه شهيداً أو منتحراً، مع عدوه، ويغيب العقل، ولا يري الفكر أو السياسة أو حتي إلي النضال الحقيقي، بالعمل والبناء والتنظيم، وتجاوز الفجوة الحضارية والإنسانية، بينه وبين من يقاتله طريقاً، حتي ولو كان طويلاً

لم يتعلموا من الكوارث التي أحاطت بمنطقتنا عقب حرب الإرهاب والتطرف الديني والخلط بين حمق بن لادن والظواهري وقضايانا الكبري

لم يتعلموا من التطرف الديني والتمييز الطائفي ولم يدركوا أهمية قيام دولة المواطنة والقانون لكل أبناء الوطن الواحد

فهؤلاء القتلة، مراهقون في السياسة، لا يعرفون بلادهم وأفكارهم مشوشة، خلطت بين الشعارات والأوهام وبين العمل الحقيقي، وهولاء القتلة عدائيون، وضد أنفسهم، يريدون أن يكون العالم نسخة واحدة منهم، ولا يرون إلا أنفسهم في المرآة ولا يتحملون صورة أخري، أو رأياً آخر

جريمة جديدة، دماء تسيل، والدموع لا تتوقف تذكرنا بالضحايا وبينما المجرمون يضحكون وما بين الضحك والبكاء اختلطت الأمور، ولم نعد نعرف هل الذين يبكون هم الضحايا أم الذين يضحكون هم المنتصرون ولكن الكل في الهم سواء، فهو ضحك كالبكاء، ولا يفرقون بين الاثنين، فكلا الاثنين فقد عقله وينتظر مصيره.

ولكن ما نعرفه أن الفكرة والهدف الصحيح لا تقتلهما الرصاصات، وقد قلت في حوار تليفزيوني حول سمير قصير هل تذكرون الرئيس السادات أشهر ضحايا الاغتيالات السياسية، لقد قتله المتطرفون، لأنه فكر في السلام، وحل مشكلة بلاده واسترد أراضيه، ورفض ذلك المتطرفون في كل مكان وتصدي له المتصدون، وحملة الشعارات والمباخر وكانت الجريمة لكنها لم تفد، وجاء بعد ربع قرن، من رفضوه ومن وصموا سياساته الفاشلة، ليعترفوا أمام العالم بأنهم هم الذين جاءوا متأخرين، فقد فهموا أخيراً، وذلك أفضل ممن لم يفهموا علي الإطلاق وقالوا أمام العالم إنه كان يعرف ويفهم أكثر، ويسلمون بمبادرة عربية، قدمها الجميع خاصة الذين رفضوا سياساته، تنادي بالسلام والعلاقات مقابل الأرض والدولة الفلسطينية.

وكذلك لم يفرح كثيراً قتلة رفيق الحريري، فسرعان ما التف الشعب حول أفكاره، وانتخبوه حياً وميتاً، أي صدقوا علي أفكاره وسياساته وسار الناس خلفه

وباسم كل الصحفيين، نري أن قتل الصحفي لا يقتل القلم، وأحسن الصحفيون اللبنانيون عندما خرجوا في وداع زميلنا الراحل ورفعوا الأقلام، فرحيل الصحفي لا يغيب القلم بل يبرز الأقلام ولا ننتظر من القتلة ومحرضيهم وزملائهم والمتشبهين بهم حتي وإن تخفوا في لباس السياسيين أن يخرجوا من جلودهم ليقولوا كلمة حق في رحيل الصحفي، فالذين لا يعرفون في السياسة والفكر سوف يظلون كما هم لا يتحركون ولذلك، لا تعولوا كثيرا   عليهم.

وأدركوا أن الزمن سوف يجرفهم جميعا مع القتلة المجرمين وسوف يكونون نسيا منسيا، فهم ضد الزمن وليسوا من التاريخ، ولم تفرضهم الجغرافيا، ولكنهم جاءوا كالزبد أو طفح البحر، وجرفتهم علي شواطئنا، ولكن الرياح العاتية التي تهب الآن علي شواطئنا، والحركة التي تموج في أنفسنا، سوف تدفعنا لكي نتخلص من كل هذه الشوائب، وساعتها سوف نتذكر بكل العرفان كل الضحايا لأنهم العلامات التي أنارت للسفن المحملة بأحلامنا الحقيقية حتي ترسون علي شواطئنا وتعيد إنعاش الأمل في كل ربوع بلادنا العربية ونفوسنا التواقة للخلاص.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى