الإفراز الديمقراطى للعراق

أعترف بأننى مازلت فى موقف محير أو ملتبس، فهل الانتخابات العراقية هى أول تحرك إيجابى للعراقيين لفرض وجودهم منذ الاحتلال؟ أم أنها العقدة الأخيرة التى ستفك النسيج الدينى والعرقى فى العراق وتبدأ الأمور بعدها فى الانزلاق نحو حرب متبادلة؟
وأعتقد جازماً بأنه لا سبيل إلى الإجابة عن هذا السؤال، مهما ملكتُ من أدوات التحليل وعمق الرؤية، ولا سبيل أمامنا مع كل ما يلف أحداث العراق من مخاوف وآلام إلاَّ أن نتماسك، ونترقب، وكل عيوننا ترنو إلى ما بعد الانتخابات.
مع الاعتراف والرد السريع والحاسم على كل المقولات بأننا أمام الديمقراطية الأولى فى منطقتنا. لنقول لأصحاب هذا الرأى اهدأوا تماماً فنحن أمام ديمقراطية من نوع خاص لا نعرف كُنهها أو حقيقتها، فهى ديمقراطية غامضة.
فلأول مرة تجرى انتخابات لا يستطيع الناخبون أو الأغلبية العظمى منهم التعرف إلى أسماء المرشحين، خوفاً من اعتداءات المتمردين والرافضين للعملية الانتخابية فاضطر بعض المرشحين إلى الاختفاء وكأنهم مرشحون بلا وجوه، وبلا أسماء، وبلا برامج أو أهداف محددة، وكلها حالة غائمة.
فنحن نعرف أن الديمقراطية هى إحدى مفردات أو آليات الدولة الحديثة، تستخدم لبنائها، لكننا وجدناها هنا تستخدم لبناء دولة طائفية، وندرك أن ديناميات العملية الانتخابية هدفها تحقيق الالتحام الوطنى وأنها وسيلة للاختيار، لكنها فى الحالة العراقية الراهنة تستخدم للتأسيس لدولة تقوم على أسس طائفية، وبدلا من استخدامها كوسيلة لاختيار القيادات والالتحام فقد جرت هنا للطلاق بين التحالفات وبدلا من الالتحام بين فسيفساء المجتمع العراقى، إذا بالانتخابات ربما أكون مخطئاً وأتمنى من قلبى ذلك تصبح قطار الغرب السريع للتقسيم وربما تفتيت وطن موحد، بين عراق للأكراد كردستان وعراق للشيعة فيدرالية الجنوب وسنة العراق محاصرون فى مثلث الموت الدموى.
وقد سألنى سائل كيف تسقط مخاوفك من يوم العراق الديمقراطى؟ وكيف يكون تاريخياً وحاسما؟ فقلت على الفور الإجابة سوف تؤجل إلى ما بعد الانتخابات وكيف سيتصرف المنتصرون؟ فهم يتحولون من حكومة مؤقتة إلى حكومة تحت الاختبار، ومن حكومة بلا شرعية سوى شرعية الاحتلال إذا جاز التعبير، إلى حكومة ربما تبحث عن الشرعية.
ولن تجدها إلا بخمسة شروط :-
أولها احتواء كل أبناء العراق والحفاظ على هويته العربية.
ثانيها إنهاء الاحتلال وعودة السيادة.
ثالثها عدم تقسيم العراق بحجة احترام الفيدراليات والحد من اتساع الانقسام الطائفى والإثنى.
رابعها وضع حد لعمليات الإرهاب والتطرف والقضاء على الزرقاوى وما يمثله بأيد عراقية وكف تدخل الاحتلال فى الشأن العراقى الداخلى.
خامسها محاكمة النظام السابق ـ بعدالة وسيادة القانون ـ ليكون بهذا الأسلوب خاتمة مميزة للظلم والبطش والاستبداد فى التاريخ العراقى الحديث.
وحتى لا نكون مبالغين، فلنعترف بأن الوضع العراقى الداخلى بعد سنوات الديكتاتورية والحروب والحصار ثم الاحتلال، لا يمكن أن يفرز الوضع الديمقراطى المنشود أيا كان شكله، أو توقعاتنا عنه، إلاَّ أن هذا المولود فى كل الحالات صعب القراءة، غير معروف الجنس، أو اللون أو الطعم، أو المستقبل الذى يمثله.
ولكن بما أن الانتخابات أسعدت شعبا وأخرجته من حالة الكآبة والخوف لساعات أو لأيام، فيجب أن نحترمها، فبالرغم من فوضويتها، إلاَّ أنها تشير إلى جذب العراقيين أو حتى محاولتهم إخراج بلدهم المنهار من جهنم.
وتبقى هناك تساؤلات عديدة ماذا سيفعل الحكام الجدد؟ فهل يكون الشيعة تابعين لشيعة إيران وتحقق الأخيرة أهدافها فى المنطقة بالحرب الأمريكية فى العراق وهو ما عجزت عن تحقيقه فى حربها هى مع العراق؟ ثم ماذا سيفعلون مع السنة فى العراق أولا؟
نحن ـ إذن ـ أمام حالة جديدة دولة شيعية عربية لأول مرة منذ انهيار الفاطميين فى القاهرة عام 1171.
وتستمر التساؤلات هل يركب شيعة وملالى إيران قطار أو حصان شيعة العراق. لتبديد استقرار المنطقة ويكونون جناحا آخر لتطرف بن لادن والزرقاوى لتصرخ المنطقة من الحالة الجديدة؟ كل شىء ممكن فى هذا العالم الصعب، ومتاح، ولا نعرف جميعا ماذا ينتظرن فالمخاوف ليست قليلة، ماذا سيكشف العراق لنفسه وللعرب فى المرحلة القادمة؟
ما الذى تخفيه المتغيرات والأوضاع الجديدة للعالم فالاستخدام الأمريكى الطائش للقوة فى العراق لم يكشف عن كل أخطائه بعد، هل يدفع الغرب والأمريكيون ثمن الخطأ الكبير بتسليم المنطقة للدولة الدينية والمتطرفين معا ويهربون بجلدهم من الجحيم الذى ينتظرنا جميعا؟
الواقع يقول لنا إنه عندما تدفع القوة المجتمعات والدول عنوة للسقوط والارتداد من دولة استبدادية إلى دولة دينية فإنها بذلك تفتح المجال للإرهاب والتطرف.
ماذا سيحدث فى العالم وفى المنطقة الحاضنة للبترول؟ كنا نتصور أن الانتخابات سوف تقلل من حجم التساؤلات والمخاوف فجاءت النتيجة عكسية تماما، زاد كل شىء وقل الأمن والأمان، ولايزال العراق لم يصدر الديمقراطية ولا نعرف ما الذى نستورده منه حتى الآن، أو ما تداعيات الحرب الأمريكية فى العراق؟
يارب استر.

