رهانات السلام بعد أنابوليس

وقد ذهب العرب جميعا لأول مرة في تاريخهم متحدين حول هدف السلام, من لهم علاقات بإسرائيل في ظل اتفاقيات: مصر والأردن.. ومن ينتظر: سوريا ولبنان, ومعهما دول الخليج وفي مقدمتها السعودية.. الكل يحمل مبادرة عربية تشكل في طياتها عمودا فقريا وقويا وورقة ضغط مؤثرة للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين لإقامة الدولة الفلسطينية المنتظرة واسترداد الأراضي المحتلة بعد عام1967 كشرط للسلام وإقامة العلاقات مع إسرائيل.
وذهب الإسرائيليون للمؤتمر ليس بحثا عن السلام ولكن بداخلهم مخاوف من التطورات الإقليمية المتسارعة, وعيونهم علي إعادة ترتيب الشرق الأوسط في ضوء تداعيات الحروب علي الإرهاب وأوضاع العراق, ثم الملف النووي الإيراني.
إن مؤتمر أنابوليس لم يكن مطلوبا منه أن يعلن عن قيام الدولة أو انسحاب إسرائيل, وقد ذهب العرب إليه وهم يعرفون ذلك مسبقا, وإذا كان كثير من المراقبين سيخرجون علينا بأن الكاسب الوحيد من هذا المؤتمر هو إسرائيل أو أمريكا. لأن الأولي حصلت علي التطبيع المجاني, والثانية كانت تطمح إلي تبييض وجهها في المنطقة أو إخفاء الكوارث التي تحدث في العراق, فإن هذا الرأي ليس صحيحا علي إطلاقه, فالعرب حرصوا علي أن تكون حركتهم داخل المؤتمر محسوبة ودقيقة وعملية, ولم تساورهم أي شكوك مسبقة بحكم التجارب في طبيعة هذه المؤتمرات.
ولكنهم حققوا ما نستطيع أن نصفه بإعادة الاعتبار الدولي إلي القضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولي للشرق الأوسط, وهي نتيجة استراتيجية بعد سنوات من التجاهل أو التهميش أثرت فيها حرب العراق وتداعياتها, وتأثيرات أحداث حروب الإرهاب في أفغانستان والتطورات المتلاحقة والمرتبطة بها علي الصعيدين الإقليمي والعالمي بعد سنوات سبع عجاف شعر خلالها الفلسطينيون بالمرارة والتغييب, وتحولت قضيتهم السياسية بامتياز إلي قضية لاجئين يتصارعون علي البقاء.
كما أن العرب بحكم خبرتهم بالصراع مع الإسرائيليين أصبحوا يدركون بالإضافة إلي أن المؤتمرات لا تصنع السلام, أن الحكومات أيضا لا تصنعه خاصة أن حكومة الرئيس جورج بوش التي دعت للمؤتمر في عامها الأخير أصبحت في موقع لا يسمح لها بالضغط علي إسرائيل, والوقت أصبح لا يسعفها لتغيير الواقع في منطقة الشرق الأوسط, كما أن الحكومة الإسرائيلية التي حضرت المؤتمر من أضعف الحكومات التي مرت علي إسرائيل بشخصية رئيس الحكومة إيهود أولمرت وبالائتلاف الهش المهزوز الذي يرأسه..
وبالوضع الداخلي للحكم في إسرائيل حيث يتربص اليمين بقيادة بنيامين نيتانياهو للوثوب مرة أخري علي الائتلاف الحاكم والمتكون من المنشقين عليه, والمتحالفين مع حزب العمل.
ونحن ندرك أن السلام والتغيير الحقيقي علي مسرح السياسة الإقليمية والعالمية لا تصنعه حكومات ضعيفة أو شخصيات مهتزة علي كراسيها, ولكن تصنعه الزعامات القوية المستندة إلي رأي عام قوي يؤمن بالسلام.
وأعتقد أن الرهان العربي والفلسطيني أصبح أكثر وعيا وإدراكا بحقائق حركة التاريخ ومتغيراته, فهو يعرف أن القوة والاحتلال لا تصنع السلام, كما أن الحقائق علي الأرض وقدرة العرب والفلسطينيين علي الاستمرار في الدفاع عن قضيتهم وحقوقهم تكشف عن عدم قدرة أمريكا وإسرائيل علي تجاهل الحقائق طويلا. فالانتفاضات الفلسطينية والاتحاد العربي حول الفلسطينيين لا يتغير والإصرار العربي عبر تلك السنين علي حقوق الفلسطينيين لا يتأثر. تلك الحقيقة هي الرهان الذي يحرص عليه العرب
وسوف يصل بهم إلي الدولة الفلسطينية وإلي السلام الحقيقي القائم علي العدل, فلا يمكن للحكومات الضعيفة أن تستمر طويلا وسوف تجرفها حركة السياسة, ورغبة الشعوب الصادقة في تحقيق الاستقرار والسلام, وهذه أول العناصر التي يجب أن نؤمن بها, والرهانات التي سوف تصل بالشعب الفلسطيني إلي دولته المرتقبة.
……………………………………………
ولقد أصبح العرب يجيدون فن اللعبة الدولية, ولم تعد إسرائيل وحدها القادرة علي إجادتها وإظهار شعوبنا ـ برغم ضعفها ـ بأنها غير قادرة علي إقامة السلام.
أما رهان الحكومات الإسرائيلية الضعيفة الأكبر فهو علي إعادة إنتاج وتصدير فشلها في إقامة السلام مع العرب والفلسطينيين عبر استخدام حالة الانشقاق بين الضفة وغزة, وإعادة تغذية المخاوف من الإرهاب, والاستفادة من أخطاء التيارات الفلسطينية المتصارعة علي السلطة في تخويف الرأي العام الإسرائيلي من عملية السلام, وتغذية وتقوية التيارات المتطرفة علي الجانبين في زيادة المخاوف وتكرارها واستخدام عملية عسكرية هنا أو هناك
واستثمار إطلاق ما يسمي صواريخ القسام علي المدن الإسرائيلية أو القيام بعمليات انتحارية أو استشهادية بإلقاء اللوم وتحميل التيارات الإسلامية حماس والجهاد وغيرهما المسئولية عن عدم قدرتها علي دفع ثمن السلام والاستقرار. ومن هنا فإن الإسرائيليين سوف يعيدون تكرار مقولاتهم القديمة حول تفكيك البنية التحتية للإرهاب ويطالبون ببناء الأجهزة الأمنية, وإصلاح المؤسسات السياسية, متناسين تأثير الاحتلال البغيض علي تفكيك الشعب الفلسطيني وانحلال مؤسساته أصلا, وعدم الثقة في الوضع القائم والاتجاه إلي الفوضي وتبعاتها التي تهيئ المناخ للجماعات الرافضة لعملية السلام وتحقيق الاستقرار للاستفادة من هذا المناخ السييء علي حساب الشعب الفلسطيني كله.
………………………………………………………….
إن إصرار العرب علي السلام وعلي أن يأخذ الفلسطينيون المفاوضات بالجدية المطلوبة والعمل المتواصل لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتوحدهم خلف قيادتهم الراهنة التي تحظي باحترام وثقة دولية, مع وجود تعاون عربي غير مسبوق, هذا الاصرار سوف يدفع المجتمع الدولي إلي الاهتمام, وسوف يزيد من مخاوف إسرائيل من أن تجد نفسها في بيئة دولية معزولة علي نحو متزايد, فقد أصبح واضحا الآن في كثير من الدوائر الأوروبية والأمريكية أن سيطرة المتطرفين علي الحكم في إسرائيل وعنادهم هو المسئول الأول عن العلاقات السيئة بين العرب والغرب, بل إن استمرار عدم حل القضية الفلسطينية وكذلك مشكلة اللاجئين وقيام دولة للفلسطينيين هو الوقود الذي يشعل الإرهاب والتطرف في العالم. وإذا نظرنا لتداعيات ملف هذا الصراع المفتوح فسنجد أنه يخلق الكثير من المخاوف لكل شعوب منطقة الشرق الأوسط.
ولاشك أن حل هذا الصراع من جذوره قد يفتح أبواب الأمل لصراعات كثيرة أخري ربما تندمل وحدها دون حرب ومنها الملف النووي الإيراني. كما قد يتم وضع حد للإرهاب والتطرف الديني الذي يؤثر في مجمل العلاقات الدولية.
إنها قضية صعبة وشائكة وتحمل في طياتها مخاوف لكل الأطراف ولكنها تستحق الاهتمام وأن توليها كل دول العالم الكثير من الاهتمام والرعاية, فالحل ممكن إذا تحلينا بروح العدل ومارست أمريكا وأوروبا ضغوطهما علي إسرائيل لكي تقبل الحل العادل. فلا يكفي وعد بوش عام2002 بقيام الدولة, وعجزه عن تنفيذ خريطة الطريق عام2003 وبالتالي لم تر دولة فلسطين النور عام2005 بحسب الوعد الأمريكي.
فهل تنجح الضغوط والعمل السياسي والمفاوضات التي انطلقت بالأمس في إقامة دولة للفلسطينيين في الأشهر الـ14 المتبقية من حكم الرئيس بوش؟.. إنه رهان صعب التصديق والحدوث. ولكن خطورة القضية الفلسطينية ومستقبل شعبها تدفعنا إلي عدم التردد في قبوله والعمل علي تحقيقه, فالوقت الراهن ليس مناسبا للمفاوضات فقط, ولكنه مناسب أيضا لقيام الدولة الفلسطينية لمصلحة العالم كله, ومنطقة الشرق الأوسط, كما أنه فرصة للإسرائيليين أنفسهم.. فهل يتم استثمارها؟ دعونا نأمل خيرا.
