مقالات الأهرام اليومى

العلاقات المصرية ـ الأمريكية أخطاء الماضي وتطلعات المستقبل

مؤشرات الانفراج في العلاقات المصرية ـ الأمريكية التي عانت مؤخرا الشيء الكثير من التوتر لاتعني أي تغيير في الموقف المصري من القضايا العالقة في علاقات الدولتين سواء فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية أو القضايا المحلية التي أقحمت الإدارة الأمريكية السابقة نفسها فيها دون اكتراث بإرادة المصريين‏..‏

أما التغيير الذي يبشر بالانفراج فإنه يأتي من الولايات المتحدة وإدارتها السياسية الجديدة التي وجدت نفسها في مواجهة إرث كامل من الغضب محليا وعالميا تجاه السياسات الأمريكية في المنطقة وفي العالم أيضا بسبب الإدارة السابقة‏.‏ ومهما يكن حجم التوتر الذي ساد العلاقات بين مصر والولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة‏,‏ فإن الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين تمثل خلفية للمساعي من أجل إنهاء التوتر واستعادة العلاقات الطبيعية بين الدولتين‏.‏ فالعلاقات المصرية ـ الأمريكية تخضع لما تخضع له العلاقات بين الدول من تعقيدات ومؤثرات ونتائج‏.‏وفي عالم يكتنفه كثيرمن الغموض وتصعب فيه التوقعات تصبح مهمة التصنيف الثنائي لعلاقات الدول مهمة شبه مستحيلة‏.‏ فالعلاقات بين الدول لايمكن أن توصف بواحدة من اثنتين‏:‏ إما الصداقة المطلقة أو العداء الدائم‏.‏ فما بين الصداقة والعداء عشرات التوصيفات والتصنيفات للعلاقات بين الدول‏,‏ ويتصور البعض العلاقات المصرية ـ الأمريكية بمثابة علاقة تحالف واندماج وأن أي خلاف بين الدولتين يعد قطيعة تقترب من العداء‏.‏

لكن الحقيقة أبعد كثيرا من ذلك‏,‏ ففي أعقاب ماحدث في يونيو عام‏1967‏ تدهورت العلاقات بين الدولتين إلي حد القطيعة الكاملة‏,‏ وفي مارس عام‏1974‏ أعيدت العلاقات علي أساس إدراك الطرفين حقيقة أهمية كل منهما للآخر‏,‏ وأن الحفاظ علي علاقات طيبة كفيل بخدمة المصالح المشتركة للدولتين معا‏..‏ وبعض هذه المصالح يخص الدولتين وبعضها الآخر يخص الأوضاع الدولية والإقليمية‏.‏ ومنذ مارس عام‏1974‏ وحتي اليوم جرت في نهر العلاقات المصرية ـ الأمريكية مياه كثيرة وظهرت خلافات عديدة‏,‏ وقد أتت معظم تلك الخلافات من التباين في وجهات النظر بشأن السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وقضاياه باعتبار أن مصر قوة إقليمية لها حساباتها‏,‏ ولديها المعرفة بتداعيات السياسات الأمريكية في المنطقة‏,‏ وما يمكن أن تتركه من تأثيرات علي الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمنطقة من حولنا‏.‏ وقد أثبتت الأيام أن وجهة النظر المصرية كانت كفيلة بحماية المنطقة والمصالح الأمريكية ذاتها من التأثيرات المروعة التي خلفتها تلك السياسات علي مدي السنوات الماضية‏.‏

وكما أن مصر لاتملك القدرة علي إرغام الولايات المتحدة علي تبني سياسات بعينها‏, فإن الولايات المتحدة كذلك لاتملك أن ترغم مصر علي قبول سياساتها في المنطقة‏..‏ وهنا يظهر الخلاف ويتجلي الاختلاف‏.‏

وكان بوسع الإطار الاستراتيجي للعلاقات المصرية ـ الأمريكية أن يستوعب هذه الخلافات لولا تلك العقلية اليمينية التي استوطنت البيت الأبيض سنوات عدة‏.‏ فهذه العقلية هي التي أورثت الولايات المتحدة عداء عالميا وكسادا اقتصاديا واضطرابات كثيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها‏,‏ الأمر الذي أدي إلي الإطاحة بتلك العقلية من البيت الأبيض بيد الأمريكيين أنفسهم في سابقة هي الأولي من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة‏.‏

فالحقيقة هي أن السياسات الأمريكية تسببت في موجة عاتية من الخلافات ليس مع مصر وحدها ولكن أيضا مع غالبية دول العالم‏.‏ فقد رحلت الإدارة الأمريكية السابقة مخلفة وراءها قائمة طويلة من الخلافات مع الرأي العام الأمريكي وقائمة طويلة من الدول حتي تلك التي وصفت يوما بأنها دول حليفة للولايات المتحدة‏:‏

علي الصعيد الإقليمي تحفظت مصر كثيرا علي الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل‏,‏ والذي أصبح عقبة حقيقية أمام التوصل إلي تسوية عادلة للصراع في المنطقة‏.‏ وفي معظم الأزمات التي مرت بها المنطقة ظلت لمصر رؤيتها المخالفة للسياسات الأمريكية بدءا من غزو العراق ومحاولات عزل سوريا و القيام بعمل عسكري ضد إيران والأوضاع في دارفور والعدوان الإسرائيلي علي غزة‏..‏ في كل هذه الأحداث عبر الموقف المصري من كل هذه القضايا عن تقاطع واضح بين مصالح قوة عالمية‏,‏ انفردت بقيادة العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي‏,‏ ومصالح قوة إقليمية لها حساباتها ومسئولياتها الإقليمية‏.‏

وعلي الصعيد الداخلي ذهب اليمين الأمريكي متأثرا بوهم القوة والانفراد بالهيمنة إلي حدود الشطط‏,‏ فيما طرحه من تصورات حول الإصلاح السياسي‏,‏ وتجاوز الأمريكيون في هذا المجال حدود العقل أو الشراكة الاستراتيجية إلي محاولة فرض أجندة الإصلاح السياسي علي دولة يسكنها نحو‏80‏ مليون نسمة‏,‏ وتضرب بجذورها في أعماق تاريخ بعيد‏,‏ وكانت الإدارة الأمريكية تعلم جيدا أن جهود مصر الإصلاحية تطول مختلف جوانب حياتها الاقتصادية والسياسية‏,‏ وفق حسابات وأولويات محلية‏,‏ تحافظ علي أمن المجتمع وسلامته‏.‏ ولكن الإدارة اليمينية الأمريكية‏,‏ أرادت إصلاحا سياسيا‏,‏ يمضي وفق ما تريد دون أدني اكتراث بإرادة أمة في حجم مصر‏,‏ ولم يتوقف الرئيس حسني مبارك عن الإصلاح ولم يستجب يوما لضغوط الأمريكيين حفاظا علي وحدة المجتمع وتماسكه‏,‏ ولم تجد الإدارة الأمريكية من أوراق للضغط علي مصر سوي تقارير اعتادت إصدارها سنويا عن الأوضاع في دول العالم المختلفة‏,‏ تارة باسم حقوق الإنسان‏,‏ وتارة باسم الديمقراطية وأخري باسم الحريات الدينية‏..‏ وكانت تلك التقارير أقل من أن تحظي بأدني احترام لما حوته من تناقضات‏,‏ وما كشفت عنه من فقر معرفي بأوضاع المنطقة‏..‏

أما ورقة الضغط الثانية فكانت المعونة الأمريكية التي أثارت الكثير من الجدل في الولايات المتحدة ومصر علي السواء‏.‏

…………………………………………………………….‏

وفي مصر يتولد رفض كامل للمعونة الأمريكية حين تمس إرادة الدولة‏,‏ وحين تصبح وسيلة مشروطة لتحقيق أهداف أمريكية تتعارض مع السياسات المصرية‏,‏ وفي واشنطن كان اليمين الأمريكي وقوي الضغط من ورائه تطالب بخفض المعونة وربطها بشروط للضغط علي مصر‏,‏ نحن لانستطيع أن ننكر ما قدمته الولايات المتحدة من معونات أسهمت في دعم برامج التنمية طوال السنوات الثلاثين الماضية‏,‏ ولكن حين تتحول المعونة من رافد تنموي إلي ورقة من أوراق الضغط السياسي‏,‏ فإن القضية تبدو مختلفة إلي حد بعيد‏,‏ فمصر لن ترهن قرارها السياسي داخليا وخارجيا بأي حجم من المساعدات‏,‏ وقد عبر الرئيس حسني مبارك عن ذلك كثيرا‏,‏ وأصبح ذلك واقعا راسخا في الموقف المصري‏,‏ وهو موقف غير قابل للتغيير تحت أي ظرف من الظروف‏.‏

والآن هناك إدارة أمريكية جديدة نأمل أن تقرأ الأوضاع بصورة مختلفة‏,‏ وعليها أن تدرك حقيقة أن العلاقات مع مصر لايمكن اختزالها في قضية المعونات‏,‏ فهناك العشرات من المصالح المشتركة السياسية والاقتصادية والأمنية التي تتجاوز كثيرا ماتقدمه الولايات المتحدة من دعم مالي لمصر‏,‏ وعلي الإدارة الأمريكية أن تضع قضية المعونة في سياقها الاستراتيجي الصحيح‏,‏ وأن تبتعد بها عن أي شروط أو أي خلافات قد تطرأ بشأن قضايا إقليمية أو داخلية‏,‏ فسياسات الإدارة الأمريكية السابقة ارتكبت العديد من الأخطاء التي تسببت في زعزعة الاستقرار في المنطقة بما يهدد الأمن القومي المصري‏,‏ ولقد تغير المناخ السائد في واشنطن بما يوفر المزيد من الفرص لإعادة بناء العلاقات المصرية ـ الأمريكية علي أسس مختلفة تدعم قدرة الدولتين علي تجاوز أي خلافات قد تنشأ مستقبلا‏,‏ وهو أمر يتطلب من الولايات المتحدة‏,‏ باعتبارها الدولة الأقوي في العالم‏,‏ أن تتفهم جيدا المصالح الإقليمية لمصر وأولوياتها‏.‏ وأن تدعم تحركاتها في المنطقة مادامت قد ارتضت بناء مشاركة استراتيجية معها‏.‏

وحين أقدمت الولايات المتحدة علي غزو العراق لم تستمع لعشرات النصائح والتحفظات المصرية فأوقعت المنطقة في معاناة طويلة‏,‏ وواجهت مأزقا لم تخرج منه حتي الآن‏.‏ وحين تتحدث الولايات المتحدة عن الانسحاب من العراق فإن التشاور مع مصر يصبح ضرورة بعد أن أفرز الاحتلال الأمريكي للعراق واقعا مختلفا‏,‏ يمكن أن يلحق الضرر بأمن المنطقة واستقرارها‏.‏ كما أن الدعم المطلق لإسرائيل يقوض كل جهد مصري وعربي في سبيل تحقيق السلام العادل ويدعم قوي التطرف الإسرائيلية بما يطيل أمد التوتر والصراع في المنطقة‏.‏ والشيء نفسه تكرر في ملفات أخري كثيرة‏,‏ انتهجت فيها الولايات المتحدة سياساتها منفردة‏,‏ وعليها الآن أن تنصت لأصوات تعلم الولايات المتحدة قبل غيرها كم كانت رؤيتها ثاقبة ومتفهمة لأوضاع المنطقة في قضايا كثيرة سابقة‏.‏

…………………………………………………………….‏

إن الولايات المتحدة تشهد تغيرات كبيرة مع الإدارة الجديدة التي تحمل إلي الشعب الأمريكي والعالم فكرا جديدا‏,‏ ولابد أن ينعكس ذلك علي علاقاتها بالقوي الإقليمية في العالم‏.‏ ونحن لانتوقع أن تصبح العلاقات المصرية ـ الأمريكية قوية إلي حد التطابق‏,‏ ولكننا نتطلع إلي أن تصل إلي حدود الفهم المتبادل‏,‏ بما يحقق مصالح الدولتين معا‏,‏ وبما يحمي تلك العلاقات من التوتر حينما ينشأ خلاف في الرؤي والسياسات‏,‏ فالسياسات المصرية لم تكن مصدرا لتهديد المصالح الأمريكية‏,‏ وكذلك نأمل ألا تصبح السياسات الأمريكية مصدرا يهدد مصالح مصر‏..‏ وهنا يمكن لهذه العلاقات أن تصبح مصدر قوة لتحقيق مصالح البلدين وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة بأسرها‏.‏

وعلي الجانب المصري يحتاج دعم العلاقات مع الولايات المتحدة إلي جهود مستمرة لاتبذل فقط وقت الأزمات‏,‏ أو في ظل التوتر الذي يطرأ علي هذه العلاقة‏,‏ ولايمكن أن نترك تلك العلاقات لدراسات مراكز بحثية لها ارتباطاتها‏,‏ أو لجماعات ضغط لاتري خيرا في المشاركة المصرية ـ الأمريكية‏.‏ولايمكن أن نترك غيرنا يشرح لمراكز التأثير في القرار الأمريكي حقيقة الأوضاع في بلادنا ومن حولنا‏.‏ ولابد أن تصل أصواتنا مدعمة بالحقائق إذا أردنا تحقيق فهم متبادل لما يجري هنا وهناك‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى