رجائى عطية الفقيه والمؤرخ.. ظلمته المحاماة!

الأثنين 3 من رمضان 1443 هــ
العدد 49427
رحل نقيب المحامين، رجائى عطية، بقاعة المحكمة فى مشهد قاسٍ، لكنه مهيب، وموحٍ.. رحل، كما كان يُحب، مدافعا عن المهنة، وعن المحامين.. رحل بعد أن كتب رسالته ببلاغة، ومارس (فعلا، وقولا، وكتابة) كل ما آمن به، وسجله بأحرف من نور.. تقرأه فتعرف أن الدنيا بخير(مادمنا نستخدم العقل، وندرك مغزى الوجود، وندرك أننا أمام فارس حقيقى ملك ناصيتى الدفاع عن الحق، وعزيمة مهنية خلّاقة)، فكان أسطورة فى عالم المحاكم، يتكلم فيلتف الناس حوله. لم تكن المحاماة بالنسبة له مهنة يتكسب منها، لكنها رسالة خالدة يرد بها الحق لأصحابه.. آمن بها، وكتبها، وتركها لزملائه هدية عاشقٍ للعاشقين، وغذاء روحٍ لأرواح، وناصية الأدب، والفكر. الراحل المؤرخ، بل الفقيه، ترك لنا رصيدا من المعارف الإسلامية يرقى إلى مستوى الموسوعة الكاملة، التى وضعته فى صفوف المجددين، وقالت لغيرهم، وللآخرين، الذين يحتاجونهم ملاذا للحق، واسترداده، إنكم فى أمان، ولذلك اعتبرت أن مجرد انتخاب المحامين الأستاذ رجائى عطية فى ١٥ مارس ٢٠٢٠ لحظة من اللحظات الحقيقية فى تاريخ مهنة عريقة فى مصر، بل هى نقطة انطلاق لإعادة الاعتبار، والتقدير من المحامين لأنفسهم، ومستقبلهم المهنى.
رحل الأستاذ رجائى عطية فى ٢٦ مارس ٢٠٢٢ ــ بعد حياة حافلة امتدت ٨٤ عاما (من أغسطس ١٩٣٨) فى قاعة المحكمة دفاعا عن زملاء محامين اُتهموا بالتقصير، وإهانة القضاء، فوضع أصولا للتعامل مع القضاء الجالس، والقضاء الواقف، ومعا، وصولا للعدالة التى هى هدف الجميع، واستقرار المجتمعات، وبلغ من احترام القضاء الأول لنقيب المحامين، وبراعته فى المرافعة، ودقتها، أن حكم فى الجلسة نفسها بالبراءة، فسجل تاريخا آخر مشهودا للجميع سيكون نبراسا، وشهادة بليغة فى قادم الأيام للرجل الكريم، المعطاء (رجائى عطية) فى سجلاته، وأدائه فى عالم المحاماة.. سِجل جعله فى مقعد الخالدين، بعد ٦٢ عاما عاشها لهم، وبهم، وهذا تاريخ عظيم سيظل يُتداول بين أجيال المحامين على اختلاف عصورهم (الحاليين والقادمين).
لكن، ولأننا أمام شخصية متكاملة، وموسوعية، جمعت فحوت، وشملت المحاماة، والتاريخ، والكتابة، والفكر- فقد أعاد لنا هذا الجيل العاتى شخصية جديدة فى عالمنا الراهن لرموز سمعنا عنها فى كتب التاريخ، والمحاماة، وفى تاريخ مصر، وتاريخ السياسة القديمة، والحديثة، وتاريخ الفكر، والذين كتبهم الراحل كذلك على صفحات الأهرام قبل أن يرحل، وذكر الناس، والمجتمع بهم، وأعطاهم حقوقهم – كما تعود هذا المحامى العتيد أن يعيد الحق لأصحابه، فصنع مجدا تليدا، وسجل كتابات، ومقالات، وكتبا خالدة كنت أغبطه عليها، وصلت إلى ١٥٠ كتابا، ويكتب فى أكثر من ٣ صحف، ويوميا له اصطباحة مع محبيه، ولم ينس السوشيال ميديا، واستخدامها، ليصل إلى مجموعات أكبر من القراء، والمريدين.
نحن أمام ظاهرة إنسانية متكاملة، بكل المعانى والمقاييس، يجب ألا تمر فى تاريخنا دون تسجيل، واحتفاء، وقراءة، ومناقشة، بل تَبصُر، لأنها حياة فكرية كاملة، بل نادرة الحدوث، لا تتكون بسهولة، لأنها نتاج عمل، واكتشافات فكرية، وقراءات لا حصر لها.. ببساطة فإن استغراق الرجل فى مهنة المحاماة، كتابة وعملا، قد ظلمه كاملا، فعندما ترجع إلى ما كتبه، أو موسوعته الإسلامية، ستجد أننا أمام مجدد كامل، بل مصلح دينى ملك لغة، وخطابا دينيا نبحث عنه، بل نسعى ليكون خطابا للجميع، إنه الخطاب الوسطى المعتدل للإسلام كدين، الذى وصل إلى العقل قبل أن يستخدمه البعض للإرهاب، والتطرف، أو يمارسه البعض شكليا، فكان الباحث، المدقق، رجائى عطية، وراء القيم، والرسالات، التى حفرها الدين، وقيمه، فى عقولنا.. عندما يدرس الراحل الشخصيات لا يستغرقه حضورها فقط، بل قيمها، وما غرسته من قيم، وتأثير فى حياة معاصريه، وللأجيال القادمة.
إذا كان الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين الاستثنائى، فإن رحيله، أو غيابه، وهو على طريق الشجعان فى طابور كبار البنائين، وعظمائهم، وضع أيادينا على عدة طرق أساسية فى بناء الوطن مؤسسة العدالة الواقفة، بتغييرها، وسنن نواميسها الجديدة، وهو على طريق التفكير مفكر عميق، وفقيه قانونى بامتياز، وعلى طريق التاريخ كان مفكرا إسلاميا مستنيرا يتحلى بالتسامح، وإعلاء قيمة العقل، ولعلنا نذكر له دوره فى إعلاء حقوق المرأة فى الإسلام، وحقها فى الميراث، ولم يتوقف بحثه ودعمه للدين على حدود القراءة، وتجديد اللغة، بل كشف الخرافات، والأساطير التى صاحبت بعض كتب السيرة، وقام بتنقيتها بأبحاث متجددة فى قمة الروعة، وسلاسة اللغة، والأسلوب الذى تقبله الأجيال الجديدة، فهو صاحب خطاب دينى أصيل، والأهم أنه معاصر، ولم يترك شيئا فى كتب السيرة، والشخصيات التى أثرت فى مسار العالم الإسلامى، وتاريخه، إلا وقام بتعميقه حتى نزداد فهما للدين، وقيمه الروحية، ضد الخرافات، والبدع التى أدخلت عليه، وسيقف كثيرون أمام كتابه: دماء على جدار السلطة، الذى أراد فيه تخليص ديننا بما حاول الإرهابيون إلحاقه بالدين الإسلامى.
رحم الله الأستاذ رجائى، وجزاه كل خير عما قدمه لنا فى حياته الحافلة، ومثلما استطاع فرض قِيمه السامية على كل من تعامل معه، وصياغة أسلوبه فى العمل، والإطار المؤسسى المنظم، والمحكم- فإننا تعلمنا منه الكثير، وكانت كتبه، ورسالته هى فاتحة رمضان هذا العام على موائدنا الفكرية، ولهذا قلت إننا أمام جبل شامخ، بل فيلسوف راقٍ، ومؤرخ، ومصلح كبير لم نكتشفه، وظلمته معنا مهنة المحاماة، ولم تجعلنا نحتفى بالفيلسوف، والمفكر، والمصلح، والمجدد الأستاذ رجائى عطية، ولكن عزاءنا أن كلماته، وفكره سيجعلانه حيا، بل متجددا للأجيال الحالية، والقادمة.. وكل الأوطان معا.
