مبادرات خلاقة

إعادة الانتعاش إلى القلب المصرى ضرورة لاستعادة الانسجام المجتمعي، بعد أن أصابه تشوه نفسى فى السنوات الماضية، وما نتج عنه من بروز ظواهر مجتمعية مخيفة، وملل وإرهاق نفسي، وجدناه فى كل شيء، وفى كل مكان، وذلك من أعراض المرض الذى عاناه منه المجتمع منذ الأحداث الجسام التى ألمت بجسده خلال أحداث عام 2011. وقد توقفت أمام مبادرات خلاقة، وجدت فيها إشارات للتغيير الصحى والإيجابي، وبداية للخروج من فترة النقاهة الطويلة التى مرت بنا فى السنوات السبع الماضية، وهى إشارات تعكس الروح الجديدة التى سوف تسود مصر فى السنوات القادمة بإذن الله.. فقد شهدت مدينة الإسكندرية مؤتمرا نظمته وزيرة الهجرة د.نبيلة مكرم، ودعت إليه أنبل جاليات أوروبا التى عاشت فى مصر (اليونانيين والقبارصة) الذين عمروا مدينة الإسكندرية، وانتقلوا منها إلى مدن مصرية أخري، منها القاهرة والمنصورة، وأدخلوا فيها المدارس، والصناعات الجديدة، والفكر المختلف والمتجدد، واندمجوا فى مصر وأحبوها وأحبتهم، ولنا معهم ذكريات جميلة، وفن أجمل، وتفكير وروح أوروبية، سرت فى جسد بلدنا الإفريقي، فى سنوات كنا فيها أحوج ما نكون إلى وصل حضارتنا بحضارة المتوسط وأوروبا، والخروج من الشرنقة الطويلة التى وضعتنا فيها فترة الحكم العثماني، ومن سيطرة الفكر السلفى على المجتمع حتى كادت تقتله، وتمنع عنه صلة الربط بالحضارات المعاصرة بحجة التمسك بالجذور القديمة. فالمجتمعات تموت عندما تنغلق وتتطور عندما تستلهم الفكر، وتنقل الصناعات والسلع والخدمات فتلاحق العصر وترتبط به وتنمو معه، وتصبح جزءا منه. وكان الفضل لليونانيين والقبارصة، مع الفرنسيين والإنجليز، فى إنشاء المدارس والمراكز الثقافية والحضارية التى مدت شرايينها إلى الفكر المصري، فجددته سنوات طويلة.ولكن اليونانيين كانوا مختلفين، فقد أحبونا وتعايشوا معنا بروح المساواة، ووجدوا لدينا ما يمكن أن يأخذ منه ويبنى عليه، فاندمجوا معنا وظلت تجربتهم فى بلدنا معاشة ومحبوبة، ولها ذكريات جميلة فى أذهان معظم الناس. وعندما بادرت د. نبيلة مكرم بالفكرة، ووجدت صداها فى كل المجتمع، شعر بها رؤساء مصر واليونان وقبرص، فحضروا المؤتمر الذى نظمته وشعر بها الناس فى الإسكندرية، وفى كل مصر، فتجاوبوا معها ووجب علينا أن نشيد بها، ونؤكد أن مبادرتها لمست وتراً فى نفوسنا وقلوبنا، لأنها لم تجذب الأصدقاء والمحبين لمصر فقط، بل أعطتنا ثقافة جديدة لكيفية الخروج من الانكماش والأفكار التقليدية التى عششت فى نفوسنا، فتصورنا أن العقل المصرى أصبح تقليديا، وغير قادر على التجدد وملامسة العصر، والسير فى مسار جديد، منعش للنفوس والعقول وجاذب لكل الناس. أما المبادرة الثانية فقد شاهدتها فى أمسية جميلة، نظمتها مكتبة الإسكندرية وأمينها د. مصطفى الفقي، فى حماية المتحف المصرى بالتحرير، لإطلاق مركز المصريات، واختار لهذه المبادرة د.زاهى حواس، وهو شخصية مصرية محترمة وعالم وخبير فى الآثار والمصريات القديمة..إن إطلاق هذه المبادرة، فى هذا الوقت، حمل رسالة بأن إحياء علم المصريات، وما تمتعت به الحضارة المصرية القديمة من قوة لا يعنى البعد عن العصر الراهن وحضارته المختلفة ولا يعنى تغييبا للثقافة العربية المعاصرة التى تسود جنبات بلدنا، فعلم المصريات وتاريخنا القديم هو نهر مختلف، علينا أن ننهل منه ليمدنا بطاقات وقدرات خلاقة فتساعدنا على أن نكون أهلاً لكل الحضارات المعاصرة. فتحية للدكتور مصطفى الفقي، المفكر المصري، عروبى النزعة الذى فكر فى د.زاهى حواس، واحترم تاريخه وقدراته فى حضارة المصريين القديمة ليطلق مركزا جديداً للإشعاع والثقافة والحضارة فى مصر.أما المبادرة الأخيرة فجاءت من جامعة الدول العربية، فقد احتفلت بالإعلام: الصحافة والإذاعة والتليفزيون، لتسلط الضوء على تطوراته ومتغيراته الجديدة، وكيفية التعامل مع الإعلام الرقمى أو الإعلام الشخصي. ولعلى أجدها فرصة للمطالبة بالتخلص من إعلام الخطابة والدعاية والتهييج الذى ساد فى سنوات ما قبل الفوضى حتى جعلها محببة للناس، ومرغوبة من البعض للهدم، وساد فى سنوات ما بعدها لتكريس تلك الفوضي. وأقول علينا أن نتخلص من هذا الإعلام حتى يظهر إعلام الناس، إعلام المواطن الحق، إعلام ينطلق ليلمس المتغيرات التى تسود فى مصر الآن، وينهى تسلط إعلام المذيعين والنشطاء الذين تصوروا أنهم يعرفون أكثر من الناس، بينما الناس يضحكون عليهم فيما بينهم، لأنهم أدركوا أن هؤلاء يعيشون فى عالم آخر، ويكلمون أناسا لا يعرفونهم. وهذا أمر طبيعي، فالجديد لم يظهر بعد، ولكنه قطعا فى الطريق، لأن مصر تتغير إلى الأفضل، وسوف تتغير أكثر. ولا يمكن أن أنهى هذه الملاحظات إلا بملاحظة أخيرة، وأقول لكل الذين طرحوا مصالحات مع جماعة الإخوان المسلمين وغيرها، وتصوروا أنهم يقولون شيئا جديداً، أو يحاولون المساعدة فى إعادة الانسجام إلى المجتمع المصري، إنكم يجب أن تتذكروا أن مصر بلد قوى وعفى ولا تعنى فترة النقاهة الحالية أن يصالح المجتمع أو الدولة بعض أفراد خرجوا عليها، وحاولوا أن يفرضوا نظاماً آخر للحياة أو الحكم، لا يقبله أغلبية الناس والمجتمع، وأنصحهم بأن يقولوا للإخوان وغيرهم إن البلد القوى مصر له قانون ونظام يقبل الجميع، ويحاكم من يخرج عليه، إنه مجتمع يطبق القانون، لا يصالح ولا يخاصم، ولكنه يحترم كل أبنائه الذين يحترمون القانون ونواميس الحياة المصرية،ٍ على أن تكون نصيحتهم لكل هؤلاء: عودوا إلى احترام الوطن وقانونه.
