مقالات الأهرام اليومى

حسابات انتخابات الرئاسة‏..‏ الواقع والمستقبل

اليقظة والانتباه السياسي اللذان جاءت بهما الأيام الواقعة بين مبادرة الرئيس حسني مبارك بتعديل المادة‏76‏ من الدستور وبين انتخابات السابع من سبتمبر الحالي لايمكن أن يعودا أدراجهما ليطويهما شعور الغفلة أو العزلة الذي احتوي حياتنا السياسية فترة طويلة من الزمن‏.‏ فلقد عشنا ستة أشهر كاملة من الحوار والحراك‏,‏ تراوح فيها إحساسنا بين الشك واليقين‏,‏ والأمل والترقب‏,‏ وانتهينا إلي حصاد نعتز به ونحن نرقب علاقة اليوم بالغد القريب والبعيد معا‏.‏

لقد انتهت الأشهر الستة إلي يقظة وانتباه علي حقيقة ما يربط حياة المواطن اليومية بالسياسة والسياسيين‏.‏ وهي حالة أقرب ما تكون إلي الوعي السياسي المنشود في حياة المواطن المصري المدعو اليوم إلي معترك السياسة‏,‏ ففيه رغيف خبزه ومسكنه ومستقبل أبنائه‏.‏

ولقد عرف المصريون مع انتخابات الرئاسة وعودا والتزامات وتعهدات تمسهم جميعا‏.‏ وهي تجربة فريدة‏.‏ فالانتخابات التي تختزنها الذاكرة السياسية المصرية كان التصويت فيها مرهونا بالعصبيات أو قدرة المرشحين علي تعيين ابن أو أخ‏,‏ أو رصف طريق يربط قرية بغيرها‏.‏ أما اليوم فقد وقف الناخب أمام مصالح أمة ومقدرات شعب بأسره‏.‏ وهي تجربة جديدة في معناها‏,‏ وقد ترجمت حقيقة العلاقة بين الأمة والديمقراطية في واقع الممارسة السياسية‏.‏

والآن تفصلنا عن انتخابات مجلس الشعب أسابيع قليلة‏,‏ وهي انتخابات تختلف عن كل الانتخابات البرلمانية السابقة‏.‏ فهي مسبوقة بالتجربة الكبري في تاريخنا السياسي‏,‏ وبالخبرات التي اكتسبناها أفرادا وجماعات وأحزابا خلال الأشهر الماضية‏.‏ وحتي تتصل الأحداث وتتراكم الخبرات لابد أن نصل ما يستحق أن يوصل بين انتخابات الأمس وانتخابات الغد القريب والبعيد علي السواء‏.‏

ومن بين ما أفرزت تجربة الأمس القريب ظواهر عديدة تستحق التأمل والتفكير بقدر ما تسمح به أحداثها التي اكتملت‏.‏

شخصيات المرشحين وأحزابهم

الظاهرة الأولي تتعلق بالمساحة التي يشغلها الحزب‏,‏ والمساحة التي يشغلها مرشحه‏,‏ في الوعي السياسي العام‏.‏ وهي مسألة حاكمة في الممارسات الديمقراطية أينما وجدت‏.‏ ولن أتوقف أمام اختزال الأحزاب في شخصيات المرشحين‏,‏ حيث بدا أن كثيرا من الأحزاب غابت تماما وراء شخصية مرشحيها أو أسمائهم‏.‏

ولقد دخل الرئيس مبارك الانتخابات الأخيرة ووراءه تاريخ طويل من العمل والإنجازات ومع ذلك نجح الحزب الوطني خلال حملته الانتخابية في أن يربط بين برنامج الحزب وشخصية مرشحه‏,‏ وهي مهمة صعبة حينما يكون المرشح بحجم الرئيس مبارك‏.‏

وفي تصوري أن مخططي حملة انتخابات الرئاسة في الحزب الوطني قد حققوا مكاسب جديدة حينما تمكنوا من إعادة تشكيل ملامح الصورة الذهنية للحزب لدي الرأي العام المصري‏,‏ حيث أظهرت فعاليات الحملة أن هناك فكرا علميا وعمليا‏,‏ وتخطيطا وجهدا‏,‏ ونظرة جادة وراء كل فعل وكل نشاط‏.‏ فلم يركن الحزب إلي شعبية الرئيس أو الغالبية المتوقع الحصول عليها‏,‏ ولذلك اكتسب أرضا جديدة وخبرات غير مسبوقة سوف يكون لها تأثيرها الكبير في المستقبل‏.‏ والحقيقة أن الأحزاب الأخري في حاجة إلي تفعيل وجودها‏,‏ ومهمتها في ذلك أيسر‏,‏ من ذي قبل‏.‏ فالحياة السياسية تلح الآن بصورة أقوي علي العقل العام المصري‏,‏ وهو مهيأ الآن للنظر بصورة أكثر جدية لفكرة المشاركة السياسية‏,‏ والتفاعل مع أطرافها‏.‏ إن استثمار الأحزاب لما جاءت به الانتخابات الرئاسية من يقظة وانتباه سياسيين مرهون هو الآخر بالقدرات الفعلية لهذه الأحزاب وتميز برامجها‏.‏ كما أن بعض أحزابنا بحاجة إلي إدراك حقيقة ومغزي التطور في العمل الحزبي‏,‏ ومن الطبيعي أن تتعدد الأحزاب وتتكاثر في لحظات الانفكاك من أسر الحزب الواحد إلي التعدد الحزبي‏,‏ ولكن التطور الطبيعي لابد أن يؤدي إلي إعادة التوازن في الحياة
الحزبية من خلال الاتجاه نحو الاندماج لإيجاد كيانات أكبر قادرة علي المنافسة الحقيقية في العمل السياسي‏.‏

ومن الصعب أن نتحدث عن أحزاب حقيقية قد يفوق عددها عشرين حزبا‏.‏ وإذا كان من غير المقبول وضع قيود علي عدد الأحزاب فإنه من غير المقبول أيضا تشتيت انتباه الناخب واهتمامه في الاختيار بين هذا العدد الكبير من الأحزاب‏.‏ ومن ثم فإن الاتجاه نحو الاندماج بين الأحزاب الصغيرة يجب أن يكون اتجاها طبيعيا تفرضه أوجه التلاقي بين البرامج ومقتضيات الواقع السياسي‏,‏ بعيدا عن الاعتبارات الشخصية التي تثير النكتة السياسية في الشارع المصري في بعض الأحيان‏.‏ فلسنا في حاجة إلي عشرين برنامجا أو عشرين رؤية لمواجهة مشكلاتنا‏.‏ ومن هنا فإنه يجب علي الأحزاب وهي تدعو الناس إلي الديمقراطية‏,‏ أن تضرب المثل في السلوك الديمقراطي في تسيير شئون الحزب بدلا من الانقسامات التي تهدد كيان الحزب ذاته‏.‏

الأحزاب ونفسية الناخب والخطاب الإعلامي
الظاهرة الثانية تتعلق بقدرة الأحزاب علي فهم نفسية الناخب المصري‏,‏ والعوامل التي تؤثر في قراره الانتخابي‏.‏ فلقد حاول كثيرون من المرشحين استثمار مشكلات الواقع إلي حدود التشويه والتجريح‏,‏ وراهنوا علي هذا الخطاب باعتباره أقصر الطرق لجذب الانتباه‏.‏ وقد تحقق لهم قدر من انتباه الشارع‏,‏ لكن قرار التصويت ذهب بعيدا‏,‏ مؤكدا فشل مثل هذه الوسائل في الدعاية الانتخابية‏,‏ تماما مثل خطاب بعض المرشحين بعد الانتخابات الذي جاء مطابقا تماما لتوقعات الشارع المصري‏.‏ فلا أحد يريد الاعتراف بالحقيقة أو أن يضرب المثل في السلوك الديمقراطي الذي نريده أكثر رسوخا علي مر الأيام‏.‏ وكان الخطاب مطابقا تماما لخطاب من لم يجدوا أنفسهم بين الفائزين في انتخابات المجالس المحلية أو غيرها من المجالس منذ أن عرف المصريون الانتخابات منذ عشرات السنين‏.‏ فالأسباب في كل الحالات واحدة‏.‏ ومن هذا المنطلق أري أننا في حاجة إلي تحديث الخطاب السياسي في الانتخابات‏,‏ من حيث آلياته وأبعاده‏,‏ وقدراته علي التأثير في جمهور تتعرض ثقافته السياسية للتغيير‏.‏فتاريخ الانتخابات المصرية ملئ بالأمثلة والنماذج التي تدلل علي رفض الثقافة الشعبية المصرية أي محاولة للنيل
من المرشحين الآخرين‏.‏ وقد أصبح الخطاب السياسي مجالا لبحوث ودراسات كثيرة‏,‏ وهذا يعني انقضاء زمن العشوائية أو الفهلوة أو التلاعب بعواطف الناس‏.‏ وفي هذا الصدد أقول إن البعض لم يفرق بين الخطب في حشود من الناس وبين الخطاب الإعلامي الذي يصل إليهم فرادي‏,‏ فكان خطابهم الإعلامي زاعقا إلي حد منفر‏.‏ وهذه حقيقة انتبه إليها كثيرون من الدعاة فعرفوا الفرق بين الوعظ من فوق المنبر والوعظ عبر التليفزيون أو الراديو أو الصحف‏.‏

إن أحدا لا يستطيع أن يحد من حرية المرشح في التعبير عن آرائه وأفكاره بالكيفية التي يريدها‏,‏ وربما نكون في حاجة إلي ميثاق شرف جديد يلزم به كل مرشح نفسه ألا يتجاوز في انتقاده الآخرين حدود ما تقره الأخلاق العامة في المجتمع‏,‏ أو ما تسمح به المنافسة السياسية‏.‏ وربما يدفعني إلي ذلك الخوف من أن يتحول الخطاب السياسي الجارح في المستقبل إلي خصومة تخرج بنا عن السلوك الديمقراطي الصحيح‏,‏ وقد عرفنا ذلك كثيرا وطويلا في انتخابات متعددة سابقة أثارت الفوضي وأودت بحياة كثيرين وألحقت الأذي بتجربة الانتخابات ذاتها‏.‏

تحديث الجداول الانتخابية
الظاهرة الثالثة وتتعلق بتحديث الجداول الانتخابية والانتقال بها من مرحلة الإعداد اليدوي إلي استخدام التكنولوجيا الحديثة والدقيقة‏.‏ ففي كل انتخاب سوف تثار مشكلة الجداول الانتخابية‏,‏ وسوف تظل علي الدوام مدخلا للتشكيك في كل انتخابات مهما تكن نتائجها‏.‏ ومشكلة جداول الانتخابات تمثل عقبة أيضا أمام الناخبين أنفسهم‏.‏ ففي الانتخابات الأخيرة كان عدد الراغبين في التصويت أضعاف الذين تمكنوا من التصويت‏,‏ وكثيرون ممن يحملون بطاقات انتخاب واجهوا مشكلات عند التصويت‏,‏ وشهدت الكثير من اللجان زحاما برغم أن نسبة الذين صوتوا لم تتعد‏23%,‏ واضطر البعض لمغادرة اللجان دون أن يدلوا بأصواتهم‏.‏ ولو أن لدينا نظاما أحدث في جداول الناخبين لكان حجم المشاركة السياسية أكبر كثيرا‏.‏

إن هذه الجداول شديدة الارتباط بحقيقة الممارسة الديمقراطية‏.‏ وترتبط هذه القضية بمشكلة الإحصاء في مصر‏.‏ فالإحصاء يمثل قاعدة أساسية لكل شيء‏,‏ بداية من التصويت وحتي احتياجاتنا من الطعام والمساكن‏.‏ ولابد من أن تحظي هذه القضية بالاهتمام الذي يليق بها في الانتخابات وغيرها‏.‏ إذ لاتنقصنا التكنولوجيا اللازمة لتنظيم جداول الناخبين‏,‏ ولن نعيد اختراع العجلة‏.‏ كما أن مؤشرات الانتخابات الرئاسية تؤكد أن معدلات المشاركة سوف تزداد بالثقة التي استعادها المصريون في النشاط السياسي‏.‏ وإذا ظلت جداول الانتخابات علي حالها‏,‏ فإن المشاركة في التصويت سوف تصبح عبئا علي الناخبين والقضاة ومنظمي اللجان‏.‏ ولاشك أن قدرتنا علي تنظيم جدول الناخبين تعد مؤشرا بالغ الحيوية علي ديناميكية جديدة تساعدنا علي مواجهة الكثير من المشكلات الأخري‏.‏

ثقافة الديمقراطية الغائبة
الظاهرة الرابعة وهي واقع الثقافة الديمقراطية في حياة المواطن فلقد اخترنا الديمقراطية طريقا لتسيير شئوننا السياسية‏,‏ ورسم ملامح الحياة في بلادنا‏,‏ وهي ثقافة مكتسبة خاصة في شكلها الحديث الذي أصبح بالغ التعقيد‏.‏ وكثير من الشوائب في الانتخابات تأتي من نقص ثقافة الديمقراطية‏,‏ واحترام حقوق الآخرين في التعبير عن الرأي والاختيار‏.‏

وعلينا أن نعترف بأن المصريين الآن ليست لديهم ثقافة ديمقراطية حقيقية تم اختبارها عبر تجارب طويلة رسخت القيم اللازمة لها‏.‏ وهذه ليست مسئولية قطاع أو مؤسسات دون أخري‏,‏ وإنما هي مسئولية جماعية للأسرة والمدرسة والجامعة والحزب ووسائل الإعلام‏.‏ وتفرق المسئولية بين هذه الأطراف لا يعني ضياعها‏,‏ وإنما يعني ضرورة البحث عن مبادرة وطنية لترسيخ قيم الديمقراطية وثقافتها‏,‏ ووضع البرامج اللازمة لذلك‏,‏ فثقافة الديمقراطية كفيلة بالحد من مشكلات المرور في الشوارع والطرق‏,‏ والإقلال من عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم‏,‏ وتغييب كثير من سلبيات الشخصية المصرية التي أفرزتها التغيرات السريعة في المجتمع إنها ضرورة حياة وضمان لمستقبل آمن‏.‏

وأرجو ألا يتحمس البعض لثقافة الديمقراطية للمطالبة بإدخالها ضمن المقررات الدراسية في مراحل التعليم مثلما ينادي الداعون إلي حقوق الإنسان والمطالبون بالمحافظة علي البيئة وغيرهم‏.‏ فثقافة الديمقراطية تنمو سريعا عندما تصبح جزءا من نسيج الحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية‏.‏

وخطورة غياب هذه الثقافة مع استمرار مظاهر الديمقراطية هي أن يتحول الحق في الحرية والاختيار إلي تعصب في الرأي‏,‏ أو جمود في الفكر‏,‏ يؤثر في النهاية علي الديمقراطية نفسها‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى