مقالات الأهرام العربى

رحيل كاتب

فى مجتمعنا لا نفرق بين العام والخاص، بين الشخص والواقع، نعيش عادة فى عالم ما نحب وما نكره!!.. وما زلنا بعيدين عن الموضوعية، نحن مع ضد أسميها عقلية الأهلى والزمالك، وما بينهما تضيع الكرة، التى هى الأصل، وذلك يسير بنا نحو الاختزال حتى تنتهى المناقشة أوالجدل.
ولن تتقدم الأمم والشعوب، ولن تصبح ديمقراطية، أو واعية أو مدنية، كما نحلم، إلا إذا تحضرت، وميزت بين الأشياء بوضوح وموضوعية، بلا خوف أو وجل أو تردد، وليس باختزال للعقل الواعى أو برؤية غامضة للعقل الباطن.

أردت أن أكتب عن الكاتب، وليس الشخص الذى عرفته أو أحببته .. الأول شخص أعرفه، وزميل أحببته، تعاملت معه عن قرب هو، طارق حسن، رئيس تحرير الأهرام المسائى، فى فترة عملى رئيس تحرير الأهرام (2005-2011)، وكانت المنافسة عالية.. طارق حسن صحفى مميز، شاب، يحب السياسة ومتخصص، ووصل إلى أعلى الدرجات ومهتم بالقضية الفلسطينية، وصحفى له أجندة، والأهم له رؤية.. كنت وما زلت معجبا به مثل زميله عبد الله كمال الراحل الكريم، رئيس تحرير روز اليوسف فى ذلك الوقت، كان الاثنان مشاغبين، يعرفان الحرف والكلمة والجملة، ويدركان معنى الرأى، وفقه اللغة، وطريقة طرحها..

وهما من جيل يصغرنى بعقد كامل، يملكان الشجاعة الكاملة ليقولا ما يعتنقان، ويملكان القدرة على الجدل، كنت أراهما بوضوح من الجيل الذى يتحمل المسئولية، وهما قادران عليها..
كنت أنظر إليهما بحب، وإشفاق طوال الوقت، وأتمنى نجاح تجربتهما (الأهرام المسائى وروزاليوسف) ولأننى نقابى، وخبرة المهنة جاءت من مجالين، صحفى ميدانى ونقابى يخدم زملاءه ليل نهار بالنقابة، لا يميز بين صحفى وصحفى، بين يسارى أو يمينى، حتى بين إخوانى أو ناصرى..

كان طارق حسن وعبدالله كمال – بالنسبة لى – صحفيين، لهما نفس الحقوق والواجبات، وكان من حقهما أن يطمحا إلى أعلى المناصب أو المواقع بشرط أن يلتزما بمعايير المهنية وقيمتها الخلقية، ولا يتنازلان عن حق الوطن، بل حقوق المخالفين لهما، وحقوق الناس عامة، أحببت طارق حسن وأحببت عبدالله كمال جداً، وزاد حبهما عندما جاءت الأحداث فى يناير، وكان أهلى يتساءلون: أليسا هما من ناصباك العداء؟ فكنت أقول لهم إنهما زميلان فى المهنة، وقد وتوثقت علاقتى بهما، عندما تقاعدنا، كنا نلتقى ونتناقش فى كل شىء، والآن، أفتقدهما وأتذكرهما يومياً بدعائى وصلاتى، وأرفض ما تعرضا له بشدة بعد أحداث ما يسمى بالثورة وأسميه عصر الفوضى والانحلال الأخلاقى والقيمى.

وأقول تذكروا أن بناء الصحفى والكاتب ليس عملية سهلة، بل عملية ضخمة تستلزم عشرات السنين من العمل الدؤوب والمستمر من الشخص، ومن مؤسسات تعمل على ذلك، وأن فقدان الصحفى والكاتب قبل أوانه، خسارة جسيمة لمن يكتبون ولمن يقرأون، وللصحف ولصناعة الصحافة والكتابة بصفة عامة وخاصة.
< < <

أما الكاتب الثانى، الذى أريد أن أنعيه، فلم أعرفه ولم ألتق به، لكننى عرفت كتابته، وعرفت أنه وصل لقارئه من أصعب السبل، وصل لقارئ من الشباب لا يعرف القراءة حتى لو علمه حل الألغاز، هو الكاتب الطبيب الراحل الكريم أحمد خالد توفيق – وقد كانت جنازته معبرة عما حققه فى عمره الوجيز، فالطبيب وصل إلى عقل القارئ..

تحية للطبيب الكاتب، ورحيله المبكر خسارة لمهنة تبحث عن كاتب، تبحث عن صاحب الأفكار، تبحث عن الملهمين أصحاب الخيال، كما تبحث عن أصحاب الأفكار .. عددهم ليس كبيرا، فلا تقبلوهم أحياء ولا تقسوا عليهم فيهربوا، فى مهنة أصبحت غير مغرية يهربون منها، وشهرتها أصبحت معيبة وتضر بأصحابها.

احتفوا بأصحاب الأفكار والملهمين والكتاب قبل أن يختفوا ولا تجدونهم، نحن جميعا فى حاجة إليهم، لأنهم غذاء العقول – وعقولنا بحاجة دائما إلى منتجات مميزة ومختلفة مثل غذاء الأجسام الذى يتطور يوميا فى صورة سلع وخدمات لا تنتهى.. بينما غذاء عقولنا يتوارى ويكاد يندثر، وسنبحث عن منتجات للعقول فى تركيا والهند والبرازيل، مثلما نبحث عنها فى أمريكا وأوربا ولكن منتجاتنا وعقولنا تحتاج إلى غذاء وطنى، فلا تضيعوه لحساب الآخرين..

رحم الله طارق حسن وعبد الله كمال وأحمد خالد توفيق، وكل الراحلين الكرام ممن امتهنوا لغة الكتابة والتفكير، وجزاهم الله ما فقدوه من الناس ومؤسساتهم فى الحياة الدنيا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى