فرحــــة النصــــر معــــــان ودلالات

أروع ما جاء به فوز المنتخب المصري بكأس الأمم الإفريقية هو أنه دفع الشعور الوطني المصري إلي السطح, كما دفع الإجماع بين المصريين إلي أعلي درجاته. فاللحظات التي صهرت مشاعر المصريين جميعا في بوتقة واحدة بمثل هذه الكثافة لم تتكرر كثيرا, حيث كان الفرح عاما وعارما حتي بين غير المهتمين بالرياضة وكرة القدم. وحينما خرجت الجماهير إلي الشوارع أظهر الجميع تسامحا غير مسبوق في التشجيع تعبيرا عن الفرحة بالإنجاز الكبير.
وسوف تحتفظ السجلات بفوز مصر للمرة السادسة بعرش الكرة الإفريقية, ولن تنسي ذاكرة الجميع يوم انعقدت إرادة المصريين علي الفوز.. ويوم اشتعلت مشاعرهم فرحا بقدراتهم إعدادا وتخطيطا وإصرارا وإنجازا, فاستحقوا عن جدارة تكريم واحتفاء الرئيس حسني مبارك, الذي هو وراء كل عمل, وتطور مميز يحدث علي أرض مصر لتشجيعه واحتفائه بكل أبناء مصر المبدعين والمخلصين.
فلقد فعلتها كرة القدم, وسوف تفعلها مرات ومرات حيث أصبح المستطيل الأخضر ميدانا للصراع وبديلا عن الحروب, وفيه اكتسب البطل في الذاكرة الإنسانية معني آخر أقرب إلي السلام والمنافسة الحرة. وربما كانت المرة الأولي منذ سنوات, التي يظهر فيها الجمهور القومي متابعا ـ عبر شاشات التليفزيون الأرضي والفضائي وعلي صفحات الصحف والمجلات ـ رسالة واحدة تصوغها إرادة جماعية لفريق من المصريين. فطوال أيام الدورة ونحن نتابع معا رسالة واحدة, لها هدف واحد يؤكد معني الوطنية المصرية, ويعيد تفعيل لحظات الدراما القومية في حياة المصريين.
وبعد انتهاء المباراة الختامية فاض الشعور الجماعي المصري لينساب في كل الشوارع والطرقات في مدن مصر وقراها وفي كل مكان فيه مصريون. إنها أيام قليلة اختفت فيها الانقسامات, التي جاء بها تعدد وسائل الإعلام وتعدد الأصوات, وما بينها من تناقضات. وكشفت هذه الأيام المعدودة عن الروح الجماعية المصرية, والحاجة إلي قدر من الإجماع نستجمع به قوانا وطاقاتنا لنزيد بها قدراتنا علي الإنجاز. فنحن نحتاج إلي قدر من الإجماع يجعل تعددية الآراء مصدرا لثراء المعرفة والخبرة والبدائل المتاحة بدلا من الانقسام والتشرذم وراء كل شيء وفي أي وقت!.
إن الإنجاز المصري في بطولة إفريقيا يذكرنا بأهمية أن نجتمع علي أشياء, ونختلف علي أشياء أخري, وألا تصبح سمة الحياة في أرضنا هي الاختلاف حول كل شيء وفي كل وقت. فالفرحة, التي عانقت مشاعر المصريين بعد انتهاء البطولة, أراها تعبيرا عن الروح الجماعية المستقرة في وجدان المصريين. وهي روح بحاجة إلي أن نرعاها وندعمها في مواجهة الفردية المفرطة, التي تدفع الكثيرين إلي الخروج علي مقتضيات العمل الجماعي وإيجاد فرص مواتية للغيرة والحسد.
ولقد علمتنا التجربة الأخيرة أن الإنجاز له طرق معروفة, مفرداتها الفكرة والإرادة. فالفكرة تحتاج إلي دراسة ومعرفة, بينما تحتاج الإرادة إلي تدريب ومران. إذ لم يكن ما تحقق في تلك البطولة ضربة حظ وهو منطق يسود كثيرا فيما بيننا في وصف الناجحين والمجتهدين. بل كان نتاجا طبيعيا لجهد استغرق سنوات من الإعداد والتخطيط والتجهيز. ولذلك قال الرئيس مبارك تكريما للعمل والإبداع والرجولة في الأداء, وليست النتيجة والكأس فقط, إنه كان قد قرر أن يذهب لاستقبال الفريق المصري في المطار سواء أجاء بالبطولة أم لا, تقديرا منه لمفردات العمل الجماعي الخلاق, الذي ظهرت ملامحه منذ المباريات الأولي للبطولة.
ولاشك أن التجربة الرياضية التي مرت بمصر, تحتاج إلي دراسة. فهي تجربة غنية بالدروس, التي يمكن أن تفيد كثيرا تجاربنا السياسية والثقافية والاجتماعية. ويكفي ما أظهرته من خصائص مصرية عطلناها كثيرا, بسبب المصالح الفئوية الضيقة والمصالح الفردية الأشد ضيقا, وليس عيبا أن يتعلم الكبار من هؤلاء اللاعبين صغار السن مزايا العمل الجماعي وانتفاء الأنانية, والإصرار والتضحية في سبيل الهدف النبيل. ونحن نحتاج إلي تلك الروح في حياتنا الحزبية والسياسية, وفي مؤسساتنا المختلفة.
ونحتاج معا إلي أن نفكر كيف لانسمح لتلك الخصائص بأن تعود لتتواري.. نعم إننا في حاجة إلي الكثير مما قفزت به فرحة البطولة الإفريقية إلي سطح الحياة والشخصية المصرية علي السواء.
وما يعمق هذا الشعور هو أن صحوة الرياضة, والتفاف الجماهير حولها تتزامن مع حالة نهوض مصرية عامة, وهذا ما يكشفه الواقع, الذي نعيشه, خاصة النمو الاقتصادي والسعي إلي حسن توزيع عائده وثماره ليشعر به الجميع تدريجيا.
والصحوة ليست رياضية وليست اقتصادية فقط, ولكنها أيضا سياسية واجتماعية, وهي تحتاج إلي توافق مصري حولها حتي نتمكن من الاستمرار والتطور نحو مواقع أكثر تقدما في المجالين السياسي والاقتصادي. خاصة إذا اعترفنا بأن صناعة التطور والتحديث والنمو ليست مسئولية الحكومات وحدها, ولكنها أيضا مسئولية الشعوب وكل فرد منا, فإذا رسخنا ثقافة المشاركة والتغيير والإصرار داخلنا فسوف نكون شركاء في إحداث التحول علي أرض مصر.
وساعتها لن تكون فرحة النصر جزئية, بل ستكون شاملة ومستمرة ودائمة, لأننا سنكون قد ملكنا عقلية المنتصرين التي تستطيع أن تضع مصر في مكانها الصحيح, الذي نعرفه بدقة من عمق تاريخنا وتأثيرنا في الحضارات المتعاقبة**


