انتخابات المحليات والمركزية التي تسكننا

تدخل مصر مرحلة انتخابات جديدة للمحليات, ومع اقتناعنا بأهميتها باعتبارها موقعة عملية لقياس قدرتنا الفعلية علي التكيف مع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي, في ظل عملية سياسية جادة تخوضها مصر للتحول السياسي ورفع درجة المشاركة بين المواطنين, فإنه يجب أن نعترف بأنها تجيء في ظل قانون قديم مازال دون المستوي, ويهمش السلطات المحلية, ولا يعطيها القدرة علي ممارسة دورها الذي نتوقعه منها, ولكننا نأمل في أن تأخذ الأحزاب والقوي السياسية المصرية هذه الانتخابات بالجدية اللازمة. وأن تتعامل معها بأكبر قدر من الاهتمام, فهي لا تقل عن الانتخابات البرلمانية بعكس ما تعتقده الأحزاب بل تزيد, فالانتخابات التي يجري الاستعداد لها الآن التي ستجري في أبريل المقبل, فرصة لإبراز القيادات السياسية, التي يحتاجها المجتمع المصري في كل المجالات, وتفعيل دور المحليات, وفتح حوار حول مستقبل وقدرة نظامنا السياسي الذي يجب أن يتنافس فيه المرشحون بدلا من الانغماس في صراعات سياسية عقيمة, وتبادل الاتهامات حول طريقة إجراء الانتخابات وما سيحدث فيها.
فكلنا أمل في قدرة الأحزاب والنخب السياسية علي جعل الانتخابات المقبلة بداية لبناء استراتيجية لتطوير المحليات وتغيير شكل مصر بقراها ومدنها وتحديثها بأيدي أبنائها. خاصة أن القانون الذي ينظمها مفتوح الآن للمراجعة, بهدف إصدار قانون جديد يحقق أكبر قدر من اللامركزية. ومن الممكن أن يكون التنافس الانتخابي مساهما في هذا الإصلاح القانوني. وكلما كان التنافس منتجا لآراء وأفكار متعددة ازدادت أهميته في إصلاح قانون الإدارة المحلية.
وإذا أطلقنا خيالنا للتصور وزادت ثقتنا بتحبنا السياسية, فإنها سوف تنتج أفكارا لتطوير دور المحليات, وبالتالي تغيير شكل الحكم في مصر, بحيث يحكم أعضاء هذه المجالس قراهم وأحياءهم ومدنهم بأنفسهم, ويتعاونون معا بلا صراخ أو ضجيج أو فساد.
ولأن تطور المحليات مثل أي نوع من الإصلاح, فإنه مجال لتفاعل اتجاهات ووجهات نظر ونقاش ومناهج متباينة, والخط الرئيسي الذي ينبغي الوصول إليه في هذا المجال هو اللامركزية. وهذا أمر يختلف من بلد إلي آخر, ومن مرحلة إلي أخري حيث يرتبط بعوامل متغيرة وفقا لمستوي التطور الذي يحدث في المجتمع.
وقد تأخذنا المخاوف من اللامركزية, خاصة نحن شعب تسكنه المركزية منذ فجر التاريخ, ولكن أراها فرصة للقياس والتعرف علي قدرتنا في كل مكان علي أرض مصر, فهل ننتهز الانتخابات المحلية لزيادة المشاركة الشعبية ودفع النمو وتحقيق العدالة وتطوير الخدمات وتحقيق التوازن بين الأقاليم والقري والمدن.. خاصة في المستوي اللازم لحسن إدارة الاقتصاد الوطني وضمان الانسجام بين اتجاهات الإنفاق العام والأولويات الاجتماعية؟ ولاشك أن تطوير المحليات وتوسيع نطاق صلاحياتها يرتبطان بقضايا وثيقة بمستقبل مصر في التعليم والصحة امتدادا إلي المرور وحالة الشارع, ومن تدعيم المشاركة الشعبية إلي تفعيل أهم بنود دستورنا, وهو مفهوم المواطنة, ولذلك لا نغالي عندما نقول إن إصلاح النظام الحالي ومواجهة فساده وضعف القوي البشرية داخله من أصعب حلقات الإصلاح السياسي والاجتماعي وأعظمها أثرا في الوقت نفسه.
وتزداد صعوبة المواجهة في المجتمعات الفقيرة التي تتحول إلي اقتصاد السوق.. ففي ظل التحول تبرز أهمية السيطرة علي الإنفاق العام وتوزيعه من أجل ضمان الاستقرار الاقتصادي وإتاحة الفرص لرفع كفاءة توزيع الموارد.
ومن هنا ينبغي ألا يكون هناك تعارض بين توسيع المحليات وزيادة دورها إلي أقصي مدي ودور الإدارة المركزية في وضع السياسات الكلية ومتابعة تنفيذها, وكذلك في توزيع الموارد لتحقيق العدالة الاجتماعية لكي تصل ثمار النمو الاقتصادي إلي الفئات الأضعف في المجتمع.
………………………………………………………………
ويجب أن نعترف بأن إصلاح الإدارة المحلية في مصر بعد مرور125 عاما من أول نظام فعلي لها, يعتبر محاولة جادة برغم كل الصعوبات. ففي عام1883 استحدثت الحكومة المصرية نظام مجالس المديريات. وظهر مجلس بلدية الإسكندرية عام1890, وأصبح لدينا نظام للإدارة المحلية بكل ملامح المجالس الشعبية والتنفيذية المحلية. وفي دستور23 قسمت الإدارة المحلية إلي ثلاثة مستويات: المديرية والمدينة والقرية, وجاءت تشريعات كثيرة بعد ذلك تحاول تفعيل دور الإدارة المحلية. غير أن ماطبق علي أرض الواقع ظل مخلصا للمركزية وحريصا عليها. وفي مناقشات المؤتمر العام للحزب الوطني حول سياسات تطوير نظام الإدارة المحلية كان هناك إجماع علي أهمية اللامركزية, باعتبارها مفتاحا سحريا لتعميق الشعور بالمسئولية في المجتمعات المحلية وتمكين المواطن من مكاسب التنمية وإنشاء هياكل أكثر قربا من المواطن لتقديم الخدمات العامة بما يتلاءم مع الاحتياجات المحلية, وهذا الإجماع قديم في مصر ولكنه لم يجد طريقه يوما إلي الواقع المعيش في المحليات.
ويبدو أن المشكلة الآن ليست في السياسات والقوانين والتنظيمات, ولكنها كامنة في الشخصية المصرية التي اعتادت المركزية منذ عرف المصريون الدولة. وبرغم شكاواهم من المركزية فإنهم عاشقون لها محافظون عليها. ولذلك تبدو أي محاولة للحد من المركزية واختيار اللامركزية في الحكم المحلي بمثابة سباحة ضد التيار ومقاومة للجاذبية التاريخية التي تسكن العقل المصري منذ زمن بعيد, ولم تكن المناقشات التي دارت في مؤتمر الحزب الوطني الأخير بعيدة عن إدراك هذه الحقيقة.
وهناك بالفعل رغبة جادة في وضع نهاية لهذا العشق المصري للمركزية. حيث انطلقت المناقشات من حقيقة أن لدينا الآن نظاما من الإدارة المحلية يكفل لنا الانطلاق من نقطة متقدمة عن بدايات الكثير من الدول الأخري. إذ تشير الأرقام إلي أن58% من العاملين في الحكومة موجودون في المحليات و88.8% منهم يعملون في تقديم الخدمات العامة من خلال قنوات اتصال بين الوزارات المركزية ومستويات الإدارة المحلية المختلفة.
ولقد قصر النظام الحالي للإدارة المحلية دور المحليات علي عدد محدود من المهام, مما أدي إلي ضعف الإحساس بالمسئولية الاجتماعية نتيجة ضعف المشاركة, وأصبح المواطن في كل قرية ونجع ومدينة يتوجه بأسئلته للوزارات حول الخدمات التي تقدم إليه. وخرجت وحدات الإدارة المحلية من المساءلة والمسئولية فتراجعت قدراتها علي البحث عن أفضل السبل لتقديم الخدمات للجمهور المحيط بها والاستثمار الأمثل للموارد المتاحة, وتراجعت أيضا الرغبة في المشاركة في المشروعات التنموية المختلفة.
وفي ظل حديث طويل عن إصلاح أوضاع المحليات والتخوف أيضا من نقل الكثير من الصلاحيات إليها. نقول: إذا كان إصلاح المحليات ضرورة قصوي خاصة في حالة بلد كبير مثل مصر, فإن هناك الكثير من الضمانات التي تجعل من هذا التوجه سياسة ناجحة وعلاجا ناجعا للكثير من المشكلات المرتبطة بطبيعة عمل المحليات. وفي مقدمتها نقل الصلاحيات من المستوي المركزي إلي المستوي المحلي تدريجيا حتي تتم إعادة تأهيل المسئولين في المحليات والمواطنين معا علي فهم واستيعاب مغزي تنشيط المحليات وتفعيل دورها.
وكذلك أن يبني التطوير المستقبلي علي ما لدينا من مكونات حالية لنظام الإدارة المحلية, واعتبارها أصولا مهمة ينطلق منها التطوير. ونحن لانريد لهذا العدد الهائل من الكيانات المحلية أن يستمر مثل الأواني الفارغة دون اختصاص وعمل حقيقي. إذ لدينا26 محافظة و222 مدينة وأكثر من أربعة آلاف قرية ونجع ومئات من المجالس المحلية الشعبية والتنفيذية. ويبقي أن نوكل إليها المهام العاجلة وأن يتم تدريب أعضائها تدريبا حقيقيا علي فلسفة العمل الجديدة التي يتبناها الحزب الوطني والتي نطبقها منذ أن أطلق الرئيس حسني مبارك مبادرة تعديل الدستور, ودخلت في ظلها الانتخابات الأخيرة.
والحقيقة أن كل شيء يتغير علي أرض مصر نحو الأفضل سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتتكيف معه النخب المصرية بمعدلات كبيرة من أجل مستقبل أفضل لبلدنا ولأبنائنا, فبغير التدريب وتنمية القدرات البشرية لن يتحقق شيء.
إنني أعلم أن مهمة الحزب الوطني في إصلاح المحليات شاقة وعسيرة, فالمركزية تسكننا منذ زمن طويل ولكن الضرورة التي تمليها اللامركزية في التنمية تمثل دافعا قويا لنا في المضي في هذه السياسة حتي نهايتها. ولعلنا نخرج من الانتخابات الجديدة بقيادات واعية وبروح جديدة لتغيير شكل المحليات في مصر وانتشالها مما أصابها من ركود وسمعة سيئة, باعتبارها بؤرة الفساد ومركز تشجيعه لتتحول الي نقطة جذب للانطلاق والتطور في مصر.
