مقالات الأهرام اليومى

أوهام حماس‏..‏

لم تكن القضية الفلسطينية يوما في مثل هذا الموقف الذي تقفه الآن‏,‏ ففي أشد أزماتها ظل للفلسطينيين والعرب من حولهم حلم واحد انعقدت عليه إرادة الجميع وهو عودة الحقوق السليبة لشعب أخرج بغير حق من أرضه‏.‏

وطوال نصف قرن اختلف العرب واختلف الفلسطينيون ولكن الحلم ظل قائما واضح المعالم‏,‏ وانعقدت من أجله إرادة العرب سنوات طويلة‏,‏ وبذلوا في سبيله جهودا هائلة حربا وسلاما‏..‏ أما الآن وللمرة الأولي فهناك فلسطين غزة وفلسطين الضفة وكل منهما تفهم القضية بمنظور مختلف يصارع الآخر‏..‏ للمرة الأولي ترفع شعارات الحرب الأهلية بين الفلسطينيين باسم القضية‏.‏ وهناك من يسعي للتهدئة مع إسرائيل‏,‏ لا لشيء الا لكي يتفرغ لتصفية خصومه في الداخل‏.‏ وهكذا أصبح الاستيلاء علي السلطة مقدما علي القضية‏,‏ التي تم استدراجها نحو الدين علي حد قول كبير حكومة حماس‏’‏ إن الفلسطينيين الذين حرموا من شهود يوم الحج الأكبر‏,‏ كان جزاؤهم شهود يوم حماس‏,‏ وهو لا يقل عن الحج أجرا‏,‏ لأن الجهاد في سبيل الله أهم من الحج‏!’‏ كيف يقرأ عاقل في هذه الدنيا مثل هذا التصريح‏,‏ ولو أن أحدا أراد التدليل علي التدليس في قضايا الدين ما وجد أبلغ من هذا الذي قيل من رئيس وزراء حكومة حماس الإسلامية‏,‏ فالحقيقة هي أن الفلسطينيين لم يؤدوا فريضة الحج ولم يقوموا بفريضة الجهاد‏.‏ ولكنهم يتجرعون في كل يوم مرارة الحسرة علي ما يجري في واقعهم وما يحاك بشأن مستقبلهم‏.‏

ولم يسمح العرب يوما بأن تصبح قضية فلسطين رهينة لدي قوة طامحة مغامرة تتخذها ورقة للمناورة ومنفذا لتحقيق حلم تاريخي قديم مثلما هو الآن‏,‏ ولم تعد حقوق الفلسطينيين في وطن آمن محورا وحيدا لما نراه اليوم علي الساحة الفلسطينية‏,‏ فلقد اختزلت القضية التي شغلت العرب سنوات طويلة في واحدة من أوراق لعبة سياسية تمسك بها دولة ظلت طوال سنوات القضية بعيدة عن جوهر ذلك الصراع الطويل‏.‏

لقد جاء الحلم الفارسي بإيران إلي حلبة الصراع‏,‏ وسواء تدثر الحلم الإيراني بعقدة تفوق فارسية قديمة مثلما كان‏,‏ أو جاء تحت عباءة ملالي الشيعة الفرس‏,‏ فإنه في كل الأحوال جاء يحمل رغبة لم تخمد في تحقيق هيمنة إقليمية‏,‏ وجاء الإيرانيون إلي أرض العرب يبحثون عن حلفاء وأدوات تدعم استراتيجيتهم وتحقق مصالحهم القومية‏,‏ وتكفلت السياسة الأمريكية الخاطئة بفك الحصار عن الحلم الإيراني حين قوضت نفوذ طالبان في الشرق وأزالت حكم صدام حسين في الغرب من إيران‏,‏ ولقي المشروع القومي الإيراني دعما من التناقضات في المنطقة وما أكثرها‏.‏

ومن خلال تلك التناقضات استطاعت إيران أن تخترق سوريا والعراق وحزب الله في لبنان‏.‏ وفشلت في بناء أي تحالفات أخري مع أي دولة عربية‏,‏ ووجدت إيران ضالتها في حركة حماس الإسلامية السنية لتدخل منها إلي أهم قضايا المنطقة وهي القضية الفلسطينية بكل ما تمثله من أهمية سياسية ودينية في العالم العربي‏,‏ وكان الدخول إلي الشأن الفلسطيني فرصة أمام إيران للاحتكاك المباشر بقوتين لهما تأثير قوي علي المصالح والأحلام الإيرانية‏:‏ مصر وإسرائيل‏.‏

وعلي الرغم من أن العلاقات الإيرانية ـ الفلسطينية أقدم عهدا من وجود حماس نفسها‏,‏ إلا أن تلك العلاقات اكتسبت بعدا جديدا بظهور حماس الحركة الإسلامية السنية التي تعتبر نفسها فرعا من فروع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين‏.‏ وهو تنظيم آخر يرتدي عباءة دينية من لون آخر لتحقيق مطامح سياسية‏..‏و هذا التحالف يثير الكثير من الشك حتي لدي بعض علماء السنة الذين كانوا قد باركوا العلاقة بين حماس ونظام الملالي في إيران قبل أن يعودوا للتحذير من المد الشيعي الذي باركوا وجوده من قبل بين أهل السنة‏,‏ ولو أنصف هؤلاء العلماء لاعترفوا بحقيقة المخاوف والتعارض بين المشروعين السياسيين بدلا من التخفي وراء المذهبية الدينية‏.‏

ولا أحد يلوم إيران علي أحلامها القديمة الموروثة بفرض هيمنة فارسية علي المنطقة مهما تكن العباءة التي يلبسها هذا الحلم في أي عصر من العصور‏,‏ ولكن المسئولية اليوم يتحملها العرب الذين رهنوا قضيتنا الكبري بالإرادة الإيرانية واستبدت بهم الأوهام فيما يمكن أن تقدمه إيران لقضايا العرب أو حتي لأحلام الراديكاليين الإسلاميين منهم‏.‏

وهم القوة الإيرانية المنيعة
ويبدو أن المساعي الإيرانية لامتلاك سلاح نووي بالإضافة إلي تشددها المعلن مع الولايات المتحدة وتنامي نفوذها في العراق قد أغرت قادة حماس المسيطرين علي الحركة بأن قوة إيران سوف تتنامي إلي المدي الذي يجعلها قادرة علي تغيير المنطقة واقتسام النفوذ مع القوي الكبري فيها‏.‏ ويرتبط بهذا الوهم اعتقاد بأن الفرس في حالة أن تدين لهم المنطقة بالولاء سوف يذكرون حلفاءهم القدامي الذين أسهموا في تحقيق الحلم الإيراني القديم باقتطاعهم إمارة إسلامية تكون نواة لمشروعهم السياسي ايضا دون اكتراث بالتعارض بين المشروعين‏..‏ وهذه أوهام بعضها فوق بعض‏.‏ إذ كيف يمكن لعقلاء حماس تصديق الخطاب الإيراني الراهن إلي هذا الحد ووراءهم تاريخ وتجارب تشهد بغير ذلك‏..‏ إن بوسع العقلاء في حماس إعادة قراءة تصريح نائب رئيس الجمهورية الإيرانية حين قال‏’‏ لو أنهم سهلوا الأمر لإيران فستسهل الأمور في العراق ولبنان وغزة وفي الملف النفطي‏.’‏ هذا التصريح وغيره وقبل أن يتحقق الحلم الإيراني يكشف عن حقيقة أبعاد الموقف الإيراني مما يحدث في غزة وغيرها‏,‏ ولو أن عقلاء حماس تدبروا الموقف السوري الحليف لإيران لعرفوا كيف تدار لعبة السياسة‏,‏ فسوريا التي تحالفت مع إيران قبل أن توجد حركة حماس لم تتراجع عن رغبتها في التفاوض مع إسرائيل بصرف النظر عما إذا كان هذا التفاوض مباشرا أو غير مباشر‏.‏ فسوريا تضع قدما مع إيران وتعد الأخري للتفاوض مع إسرائيل‏,‏ كما أن استمرار التحالف بين حماس وإيران سوف يقيد حرية حماس نفسها في اختيار البدائل السياسية‏,‏ فالتحالف الآن أصبح عسكريا وأمنيا تعتمد فيه حماس علي إيران وسوريا‏.‏

وهم الاستيلاء علي الضفة الغربية
ولم تعد غزة بحجمها وأوضاعها ترضي غرور البعض في حركة حماس‏,‏ ومن ثم يتطلعون إلي ضم الضفة الغربية والاستيلاء عليها‏..‏ هذا الوهم يداعب خيال قادة حماس بالرغم من أن ميزان القوة في الضفة الغربية لايسمح بالتفكير فيه الآن حيث تختلف الأوضاع تماما عن غزة التي تم الاستيلاء عليها بسهولة لأن توازن القوة كان في صالحها أصلا ومع ذلك فهم يراهنون اليوم علي ضعف أداء حركة فتح وانقساماتها وصراعاتها الداخلية فضلا عن الصراع علي السلطة في الضفة الغربية بين أنصار سلام فياض‏,‏ ومن يسعون إلي إبعاده‏,‏ كما يراهنون علي أن كوادر حماس الضعيفة نسبيا في الضفة الغربية الآن تمتلك قدرة تنظيمية عالية واستعدادا قتاليا هائلا لايتوافر لأعضاء حركة فتح‏..‏ أما فيما يتعلق بوجود قوات احتلال إسرائيلية داخل الضفة الغربية فهم يراهنون علي أن لعبة التطرف الثائر بينهم وبين إسرائيل ستقنع قوي اليمين الإسرائيلية بأنهم الأجدر بالتفاوض معهم علي هدنة طويلة المدي لعدة عقود‏,‏ خاصة أن هذا العرض مطروح منذ أن أعلنه زعيم حماس الراحل الشيخ أحمد ياسين في عام‏2003‏ وتكرر بصياغات مختلفة علي لسان أكثر من قيادي من قيادات حماس‏,‏ وهم يستندون في هذا الرهان إلي أن الصعوبات التي تفرض التوصل إلي اتفاق سلام ستجعل الخيار الوحيد الممكن بعد عام أو عامين من الآن هو هدنة طويلة الأمد‏,‏ وأن اليمين الإسرائيلي‏,‏ الذي يزداد نفوذه الآن‏,‏ سيجد أن هذا هو الخيار الأفضل‏,‏ وأن حماس هي الجهة التي تستطيع ضمان تنفيذ مثل هذه الهدنة‏.‏

ولعل هذا يفسر جانبا من مناورات قادة حماس بشأن الهدنة في قطاع غزة‏,‏ والرسائل الصريحة والضمنية التي يوجهونها إلي إسرائيل‏,‏ وهذه المناورات يكشف عنها التناقض في مواقفهم ورسائلهم التي يريدون توجيهها لإسرائيل‏,‏ فتارة نسمع محمود الزهار يعلن أن إلقاء أي صاروخ علي إسرائيل يعتبر خيانة وطنية‏,‏ بينما تقوم قوات حماس باعتقال نشطاء من فصائل أخري بتهمة خدمة الشرطة الفلسطينية‏,‏ وتارة أخري كان هو وغيره يعتبرون إلقاء الصواريخ جهادا ومقاومة‏..‏ والرسالة هي أنه إذا تم التوصل إلي هدنة مريحة لنا ولكم‏(‏ أي إسرائيل‏)‏ فنحن قادرون علي حمايتها وفرضها علي الفصائل الأخري‏.‏

ومن هنا يأتي التوافق الضمني بين مصلحة حماس ومصالح إسرائيل‏,‏ وهكذا يعيش قادة حماس في وهم كبير يدفعهم إلي تعطيل الحوار فهم لايريدون مصالحة مع فتح والسلطة الفلسطينية‏,‏ وإنما يتطلعون إلي انقلاب آخر في الضفة الغربية التي تعتبر هي هدفهم القادم وليس غيرها‏.‏

ومن الخطأ أن يعتقد البعض أن حماس يمكن أن تتطلع إلي سيناء أو جزء منها‏,‏ والخطأ في هذا الاعتقاد مزدوج‏,‏ فهو خطأ في فهم استراتيجية حماس‏,‏ كما أنه خطأ في إدراك كيف تفكر حماس في مصر‏,‏ فقادة حماس‏,‏ برغم أوهامهم الكثيرة‏,‏ لم يقعوا في وهم أن في إمكانهم أن يلعبوا مع مصر لعبة بهذا الحجم الذي لايطيقونه ولايقدرون حتي علي التفكير فيه‏,‏ فمصر ليست صغيرة‏,‏ ويعلم الجميع أنها قادرة علي سحق من تسول له نفسه مجرد التفكير في الاعتداء علي شبر من ترابها الوطني‏.‏

وهم المشروع السياسي الأصولي
يري كثيرون حماس جزءا من نضال شعب فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي‏,‏ وعليها أن تتبني المشروع الوطني الفلسطيني‏,‏ غير أن حماس بما تقوم به تكشف عن أنها حركة أصولية تتبني مشروعا إسلاميا يتجاوز فلسطين ليصل بين المغرب وإندونيسيا‏.‏ فهي امتداد لحركة الإخوان المسلمين‏,‏ وقد ورثت عنها فكر الاستيلاء والاعتقاد بأنهم الحق وغيرهم الباطل‏,‏ وأنهم المؤمنون وغيرهم كفرة ملحدون‏..‏ وهذا المشروع لايمكن أن يبدأ بغزة‏,‏ ذلك القطاع الفقير الذي زاد مع حماس بؤسا وفقرا‏,‏ ولذلك كان التخطيط لضم الضفة وسيلة لصناعة قاعدة اقوي لمشروعهم الواهم‏,‏ وكانت حماس حذرة في علاقتها بالإخوان المسلمين في مصر‏,‏ ولكنهم في الآونة الأخيرة أعلنوا انتماءهم الصريح حينما بدأوا احتفالهم بذكري تأسيس حماس بقسم الولاء لدعوة الإخوان‏,‏ بل فرضوا علي الحاضرين جميعا ترديد القسم‏..‏ والغريب أن حماس تتوقع من إيران وحليفتها الأخري سوريا دعما لهذا المشروع‏..‏إن إيران لديها مشروعها أما سوريا فتاريخها مع الإخوان معروف‏,‏ وعداؤها لهم تشهد عليه أشلاء الآلاف من قادة وأعضاء الجماعة في سوريا التي تستضيف‏,‏ لأسباب سياسية بحتة‏,‏ خالد مشعل وغيره من قادة حماس‏.‏ ولاشك‏,‏ أن انقلاب إيران وسوريا علي مثل هذا المشروع حقيقة واقعة إن حاولت حماس الخروج به من دائرة الأماني إلي دائرة التعبير اللفظي‏.‏ ومع ذلك تظل حماس غير واعية لما تجري به الأحداث حولها‏.‏ وإذا كانت حماس تعي حقيقة ذلك الذي تريده منها سوريا وإيران فإنها ترتكب بذلك خطأ فادحا في حق الفلسطينيين وغيرهم من العرب‏.‏

وهم استخدام الرأي العام
من الأوهام التي يبدو أنها تسيطر الآن علي بعض العقول في حماس أنها يمكن أن تستخدم الرأي العام في مصر‏,‏ وفي غيرها من البلدان العربية‏,‏ في الضغط علي الحكومات لاتخاذ مواقف مغايرة تحقق لها أهدافها‏,‏ فالحقيقة أن تعاطف الرأي العام المصري والعربي مع معاناة الفلسطينيين شيء‏,‏ وقبول سياسات حماس شيء آخر‏.‏ وقد تستطيع حماس التلاعب بعواطف الشارع العربي‏,‏ ولكنها لن تستطيع الاستمرار في ذلك لفترة طويلة من الزمن‏.‏ فالأزمات توجد اهتماما من الرأي العام‏,‏ ولكن هذا الاهتمام يتناقص بمرور الوقت إذا استمرت الأزمة‏..‏ والانتفاضات الفلسطينية ـ لو يذكرون ـ دليل عملي علي ذلك‏.‏ ومعاناة الفلسطينيين في غزة أيضا تخضع لنفس المنطق‏.‏ فالتعاطف العربي سوف يقل تدريجيا إذا لم تجد الأزمة طريقها للحل خاصة أن الأزمة في حقيقتها فلسطينية بيد حماس وبيد اسرائيل وليس لقطر عربي واحد دخل في ذلك‏,‏ ولقد حاولت أبواق الدعاية التابعة لحماس وإيران وسوريا أن تحمل دولا بعينها تبعات الأزمة ومسبباتها‏,‏ ولكن الوقت كشف تلك الأكاذيب‏,‏ حيث أصبحت القضية أكثر خضوعا للعقل منها للعواطف‏.‏ وسوف تخسر حماس بمرور الوقت ما تعتقد أنه تعاطف‏.‏ فالشعوب أيضا لديها همومها وأولويات عملها وهي اليوم أقل قابلية للتلاعب مما كانت من قبل‏.‏ فقد تعددت مصادر المعرفة وتغيرت قدرات الناس علي فهم ما ينشر‏,‏ أو يذاع‏,‏ وتطورت مهارات الفرز لدي الرأي العام‏.‏ واستخدام هذه اللعبة مع المصريين أمر مثير للسخرية‏,‏ فالمصريون أكثر وعيا من أن تتلاعب بهم حماس أو غيرها فوراءهم تاريخ طويل من الصراع والتعرض لحملات أشد تعقيدا مما يمكن أن تقوم به حماس التي يجب ألا تغتر بقلة من الأصوات تتبني موقفها وتدافع عنها‏,‏ فتلك الأصوات من نوعية التفكير السائد نفسه لدي البعض في حماس وهم جميعا معروفون بأنهم وقادة حماس قد خرجوا من معطف واحد‏.‏ والمصريون في القضية الفلسطينية تحديدا أطاعوا قادتهم حربا وسلاما من أجل الفلسطينيين‏,‏ ولن يخرج مصري علي هذا الإجماع من اجل حفنة مغامرة تغتال اليوم نضال السنوات الطويلة في ظلال الوهم الذي استبد بالبعض في حماس‏.‏

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى