عين على القاهرة

سوريا الكبرى تتألم. والمشاهد فيها مبكية، موجعة، وسوريا الكبرى، كما نعرف، تشمل العراق، وآخر مشهد حزين جاء من الموصل، وهى مشاهد تقرع الأجراس، وتذكرنا بالخوف من المستقبل. فهذه المدن السورية، عبر التاريخ، ومنذ دخول الإسلام، وانتشار اللغة العربية، كانت تسبقنا، وتصل إلينا. ومشاهد السوريين، وانتشار محلاتهم فى القاهرة أمر مفرح لا شك فيه، ولا يحزننا، فهم أهلنا، وليسوا غرباء عنا، وبلادنا بلادهم، بقدر ما يحزننا، ويدمى قلوبنات تلك الكارثة العربية المفزعة التى حلت بسوريا وشعبها، وعملت على تدمير مدنها الغالية من دمشق وريفها، والرقة وحلب إلى آخر القائمة الطويلة. نتألم لملايين السوريين، وهم بلا مأوى، وضحايا مشردين على الشواطىء فى العواصم الشرقية والغربية، تتقاذفهم أمواج حروب عاتية، أكلت البلاد، ودمرت المستقبل، وشردت الأجيال، وأخافت الأطفال قبل الشباب والشيوخ، من مجهول ينتظر شعوب المنطقة بالكامل! عقب كل حدث جلل، أخرج إلى الشارع هائما على وجهى، أبحث عن القاهرة، أتساءل هل لاتزال فى مكانها أم تحركت إلى مكان آخر؟ ولكننى فى كل مرة أرى الزحام، وتقاطر الناس، والسيارات بكل أشكالها، والفوضى العارمة، أقول: الحمد لله نحن بخير. أرى أحياء كاملة تتغير فى وسط المدينة، أحياء للإخوة السودانيين بالملايين، يأكلون ويشربون، ومقاهيهم مكتظة، يتاجرون، ويعملون، أنظر إلى وجوههم، لا أرى شيئا محددا، لا هم خائفون، ولا هم ينتظرون العودة إلى بلادهم، ولا أرى المصريين متضررين، بل هم يتعاملون معهم بإخوة عجيبة ونادرة. شعب بل شعوب كاملة فى الشوارع، وفى الأحياء، لا تفرقة ولا تمييز، ولا خوف، إلا على ما يحدث فى بلادنا. القاهرة كانت عاصمة سياسية، ومقرا لجامعة الحكام العرب، ولكن القاهرة المعاصرة صارت عاصمة عربية بحق لكل شعوب العرب، فهناك أحياء كاملة مكتظة بالسكان، أحياء ليبية فى الزمالك، والمهندسين، و6 أكتوبر، والتجمع الخامس، ومدينة نصر، ومصر الجديدة، وهم ليسوا من الطبقة الغنية وحدها، ولكنهم من كل الطبقات، يعملون ويتزوجون، يمارسون حياتهم، كأنهم انتقلوا من طرابلس أو بنغازى أومدن أخرى إلى القاهرة. وقد دخلت حيا فى6 أكتوبر وجدته حيا كاملا للإخوة العراقيين، تذكرت روايات التاريخ، ورحلات الحج القديمة، عندما كانت القاهرة مركزا لكل شمال إفريقيا من التوانسة والجزائريين والمغاربة، ولا تزال لهم أحياء بأسمائهم، وحِرَف مسجلة تتوارثها الأجيال، وأسر نعرفها بأصولها المغاربية، وقد اندمجوا فى مجتمعنا بكل أريحية. فمصر بوتقة ينصهر فيها كل البشر، والقاهرةت مدينة مفتوحة الأذرع لكل العرب، ترحب، ولا تقول إنها ترحب، فهم أبناؤنا، ولهم نفس الحقوق، وحتى لا يخطر على بالنا أنهم هنا لأسباب قهرية حلت بأوطانهم. لأننا نشعر بأن وجودهم بيننا حق، وليس واجبا نؤديه، حتى وأنا أكتب هذا الكلام أشعر بأنه أمر عجيب، لأن القاهرة وهى تئن من أزمات مصر الاقتصادية الصعبة لا تشعر بأن العرب الموجودين بيننا عبء علينا، ولكننا كنا نريد العراق مزدهرا، وسوريا مزدهرة، وليبيا مزدهرة، واليمن مزدهرا، والسودان مزدهرا.
لقد كانت لأمتنا قضية كبرى هى فلسطين، وشعبها المهجر فى ربوع الأرض عقب قيام إسرائيل، وطرد الفلسطينيين من أراضيهم بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى الآن هم الشعب الوحيد تحت الاحتلال الاستيطانى المخيف، وظلت قضية العرب الكبرى هى إعادة المشردين الفلسطينيين، وإقامة دولة فلسطينية من جديد، أما الآن فصارت لنا عدة قضايا أو كوارث، فقد سقطت المدن، وتم تهجير الشعوب، وانهار الاقتصاد، وصار لنا مهجرون يبحثون عن مأوى أو دولة، أو ظهر يسندهم من الضياع. مسلسل التدمير لا يتوقف. رأيناه فى مدينة الموصل العراقية، وكيف تم تدميرها بالكامل، وتهجير سكانها بالملايين، والموصل ثاني أكبر المدن العراقية بعد بغداد العاصمة. وقد رأيت بعض العراقيين يرقصون على أنقاض البيوت فرحا بأن الموصل تحررت من داعش، وعادت إلى حضن الوطن، ولكننىت لم أر النصر فى عيون أحد. فالمهاجرون يبكون بالملايين، والمساجد الكبرى تهدمت، حتى مراقد الأنبياء لم تسلم من التفجير، بل إن اللصوص ومدعى الإسلام سرقوا رفات الأنبياء! كأنها قصص خرافية عادت من القرون الوسطى لتعيش بيننا من جديد، لقد هدموا مقبرة النبى يونس والنبى شيث، تخيلوا أنهم سرقوا رفاتهما ودمروا مسجديهما!! صور مخيفة وكارثية، وعادوا وكرروها من مدينة لأخرى، بدأت من بغداد، وانتشرت فى كل مدن العراق، وامتدت إلى سوريا ودمشق وحلب والرقة، وإدلب، ودرعا، وكانت قد انتقلت بسرعة من السودان وجنوبه، وموريتانيا ومالى، إلى العراق وليبيا وسوريا، وكأنها وباء الكوليرا الذى عصف باليمن، وبهذا لم تعد لنا قضية واحدة، أو شعب مهجر واحد، بل شعوب وبلاد ومدن! ولا أدرى لماذا ركزنا على تحرير المدن على أهمية ذلك، وتركنا المشردين والمهجرين فى بلاد المنافى؟ فمن واجبنا الآن أن نحمى هؤلاء، ونذهب إليهم، فهم مهجرون، فاقدو الأمل فى حاضر يؤويهم، أو مستقبل ينشدونه أو حضن يخفف عنهم الآلام.
أى توحش نعيش فيه؟ أليس لكل واحد من هؤلاء الضحايا قصة، وحياة ومستقبل، أليس هو أخانا، أنتركه يسقط ويضيع؟ فمنا من سقطت ضمائرهم، وتحولوا إلى وحوش لا يعرفون الرحمة، وأصبحنا جميعا، المجرم والضحية فى نفس الوقت، لأننا نسينا الإنسان فينا قبل الدين والهوية، وسقطنا فى بئر سحيقة من التطرف والجريمة، وليس بعد سقوط الإنسانية شىء آخر نفخر به. فابحثوا عن الناس المشردين، عن الضحايا عبر كل بيت مهدم، وعبر كل طفل يتيم، وأسرة تم تشريدها، احكوا حكايتها، لا تستهينوا بآلام الناس، فهم نحن، ونحن هم. قلت أبحث عنهم فى القاهرة، فأنا أخشى أن تصل إليها شذرات هذا الوباء، وباء السقوط لا قدر الله، فهى الملاذ، وصمودها حصن للجميع.
والقاهرة غير بعيدة عما يحدث فى الإقليم، فوقوع حادث هنا أو حادث هناك فى قلبها تتثور الأزمة، وتحتدم القصة، وهى جزء منها، فبعد أن يسقطوا فى الشام لا بد أن يزحفوا إلى القاهرة.
ولكن لكل زمان ومكان ظروف، وتختلف أساليب المواجهة. فكيف ستنقذ القاهرة نفسها؟ وهل هناك عين القاهرة؟ تلك قصة أخرى نحاول أن نتابعها معا.
