نحو علاقة مصرية أمريكية بدون مساعدات!

مع اعترافنا بأهمية المساعدات الأمريكية لمصر، فى الحقب الأربع الماضية، إلا أنه، فى ضوء تحويل هذه المساعدات إلى لعبة فى يد الإدارة الأمريكية، بين الخفض والإرجاء، واستخدامها كأداة للضغط السياسى، فإنه يجب علينا، فى إطار سياسة المصارحة بين البلدين، أن نعيد النظر والتفكير فى الاستغناء عن هذه المساعدات، وعدم ربطها بتطوير العلاقات بين البلدين، سواء سياسيا أو اقتصاديا مع التركيز على التبادل التجارى بديلا عن هذه المساعدات، وجذب الاستثمارات والشركات الأمريكية والعالمية للسوق المصرية، وذلك أهم بالنسبة للاقتصاد المصرى الذى وصل إلى درجة من التقدم، تسمح له بالفطام من كل أشكال المساعدات.
فنحن لم نستفد، فى السنوات الأخيرة، من المساعدات الاقتصادية، فهى لا تشكل إلا تعبيرا رمزيا عن الاهتمام الأمريكى بالاقتصاد المصرى، ثم جاء التخفيض والإرجاء الأخير للمساعدات العسكرية لتصبح هامشية، وهى رسالة يجب أن تحسن الإدارة فى مصر استقبالها، والتعامل معها، فأيا كانت قيمة هذه المساعدات، كبيرة أم صغيرة، فهذا لا يعنى قبولا باستخدامها للضغط السياسى، ولا تعبيرا عن التبعية لأى سياسات أمريكية ترفضها مصر لنفسها أو لمحيطها الإقليمى.
وكنت دائما أتابع الإرجاء أو التجميد، أو التخفيض بعدم الاهتمام، لإدراكى التام بأن الأمريكيين سرعان ما سيعودون فى قرارهم، خاصة أنهم فعلوها أكثر من مرة، وفى النهاية سينتصر صوت المصلحة وأهمية علاقاتهم بمصر، على كل الأصوات أو القوى التى لا تريد للجانبين استمرار وقوة هذه العلاقات!!
ولكن ما أثارنى فى القرار الأخير، بالغاء وإرجاء 3 حزم متتالية ومستحقة، قيمتها 290 مليون دولار، منها 195 مليون دولار تشكل 15% من المساعدات العسكرية، هو أن القرار يتم وسط معركة محتدمة مع الإرهاب فى الإقليم، وفى وقت تقول فيه أمريكا إنها معنية بقيادة تحالف دولى لهزيمة ما يعرف باسم داعش، والتيارات الأصولية المتطرفة بينما مصر بجيشها هى القوة الحقيقية فى المنطقة، والقادرة على تلجيم ومحاصرة التطرف والارهاب، وكل هذه المعدات تدخل فى إطار قطع الغيار والأسلحة الضرورية فى هذه المعركة، أى أن هذا القرار أخذ بعدا جديدا، هو الضغط على المؤسسة العسكرية المصرية من وزارة الخارجية الأمريكية بشكل مباشر، فهل هى رسالة إلى البيت الأبيض أم رسالة إلى الحكومة المصرية، بعدم التعويل والاعتماد على البيت الأبيض، ودعم الرئيس ترامب للسياسة المصرية، أم هى كل هذا؟
ولخطورة هذه الرسالة تدخّل الرئيس الأمريكى ترامب، وخاطب الرئيس السيسى مباشرة، مما ألغى أى تفاعلات لتأثير هذا القرار، بل ألغى الرسالة بكاملها، وانتظروا، وهذه ليست معلومات، أن هذا الإرجاء لن يطول حتى يصل ميعاد الحزمة الثالثة، وسوف يلغى القرار، لأنه لا يضر بالمصالح المصرية بقدر إضراره بالمصالح الامريكية فى المنطقة، واستحقاقات الحرب ضد الإرهاب والتطرف.
باتت لعبة التلويح بالمساعدات، من قبل الإدارات الأمريكية والحكومة والكونجرس، لعبة فاشلة، وفقدت تأثيرها وجدواها، فنسبة هذه المساعدات إلى الاقتصاد المصرى لم تعد تشكل رقما مهما فى الميزانية، رغم حرص الإدارة المصرية على استمرارها، لأنها أحد المكونات لعلاقات طويلة وممتدة.
وكان أوجب على وزارة الخارجية المصرية أن يكون ردها هذه المرة شاملا، متضمنا أن الرأى العام المصرى ليس هو الحكومة، يدرس ويفحص تبعات الأمور، وهذا الرأى العام قد سئم هذا السلوك الأمريكى المعيب، وأنه كان يجب على الإدارة الأمريكية ألا تستخدم سياسة المساعدات إلا فى مكانها الصحيح، وألا تكون عرضة لهذه الألاعيب غير المبتكرة بين المؤسسات الأمريكية المختلفة فى تكوين الآراء والاتجاهات فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ويبدو أن الخارجية الأمريكية، لا تزال حتى الآن، لا تستوعب الضربة التى تلقتها عقب سقوط مشروعها فى مصر بتولى الإخوان السلطة، ولا تعترف بتقديراتها الخاطئة. عن مكانة الإسلام السياسى، والإخوان المسلمين فى مصر والمنطقة، وأن تحمسها، منقطع النظير لهم، باء بالفشل الذريع، وسوء التقدير البالغ، وحمّل المنطقة خسائر كبيرة، وأثر على استقرار السلام الإقليمى لسنوات لن تكون قليلة فى عمر الزمن!
وكان يجب على الخارجية الأمريكية ألا تتدخل بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية فى لعبتها المزدوجة مع المؤسسات الأخرى فى الإدارة، فى محاولة لإسباغ وجهة نظرها بالموضوعية، فى حين أنه تغيب عنها الرؤية السياسية الثاقبة وتحاط بالفشل الذريع، حتى إن الكونجرس يطالب بأن تقدم له الخارجية الأمريكية إيضاحات حول الأفكار التى صاغتها خارجيتها فى السنوات العشر الأخيرة، وكلها عناصر فاشلة أضرت بالمصالح الأمريكية قبل غيرها، وورطت شعوب الشرق الأوسط فى انهيارات متتابعة لم تتوقف حتى الآن.
وجاءت محاولتها الأخيرة ربط المساعدات بما تسميه حقوق الإنسان هى الأخرى كذريعة باهتة لا وجود لها فى بلاد تحارب الإرهاب والتطرف، إلا إذا كانت الخارجية الأمريكية مازالت تعاند، ولا تريد الاعتراف بأن جماعتها المتطلعة إلى سلطة مصر، ليست جماعة سياسية، ولكنها جماعة إرهابية، وتقف وراء معظم الأفكار الإرهابية فى منطقة الشرق الأوسط، وكانت تريدها فى السلطة لأسباب غير معروفة، وهذا الموقف فى حد ذاته يشكل جريمة تآمر، وتدخل فى الشئون الداخلية، يستوجب الصراحة مع الأمريكيين حول طبيعة العلاقات المستقبلية معهم، وهل سيتم التدخل المباشر فى الشأن المصرى إلى هذا الحد المفجع، كما حدث عقب الاضطرابات التى عمت البلاد بعد عام 2011 وحتى قيام ثورة المصريين ضد الإخوان فى 30 يونيو 2013؟
وإذا كانت المعونة العسكرية يحكمها إطار من المصالح المتبادلة، واستفادت منها الولايات المتحدة ولا تزال ، فيجب أن يكون هناك حوار استراتيجى حول سياسات المستقبل فى هذا الشأن، وهل يدخل فيها تضرر الأمريكيين من تنويع مصادر السلاح والتصنيع العسكرى المتميز الذى وصل إلى روسيا وألمانيا وفرنسا، مع ارتفاع مستوى التكنولوجيا العسكرية، وما حجم تأثير ذلك على الدوائر الأمريكية العديدة؟
إن السياسات المرتبكة والازدواجية، لبعض الدوائر المؤثرة فى القرار الأمريكى، يجب ألا تثيرنا أو تغضبنا إلا بقدر ممارسة سياسات مستقلة، أو الوضوح فى الاستراتيجيات، خاصة فى موقف قد يكون هو الأخطر فى التاريخ الأمريكى الداخلى، مع معرفتنا بأن لنا عدوا يتخذ من هذا الضعف نقطة تحرك للضغط علينا، وفى العموم، فهو ضغط هزيل، ولن يجدى حتى فى قوة العلاقات المصرية الأمريكية.
