
تتميز مصر كالدول العظمى بأنها امتلكت عبر مراحل الزمن، ظواهر إنسانية شامخة، خالدة وجبارة، جددت حياتنا، وطبعت العصر بأسمائها، وتركت للأجيال ثروة فكرية، يصعب تقدير قيمتها المادية.
وفرض يوسف إدريس (1927-1991)، وثورته الفكرية والأدبية والإنسانية، علىّ شعورا بحاجتنا اليوم إليه، وإلى ما تركه من أعمال خالدة، إذا استشعرتها أجيالنا الحالية، فقد تترك فى مخيلتهم ما يساعدهم على تقبل العالم، وتغييره لصالحهم، وهذه هى القيمة الأولى للفكر والأعمال الإبداعية الخالدة. وأدركت كم نحن مقصرون فيما تحت أيدينا ولا نستخدمه، وتضيع قيمته بمرور الزمن، ودائما ما يشغلنى سؤال، كيف وقعنا فريسة لميراث الجهل؟ كيف؟ ونحن بلد الفكر والثقافة والشعر، وبلد الفن السينمائى والمسرحى والموسيقي، ذلك البلد الذى ليس له مثيل فى الشرق كله؟
والأسماء لا تحصى من نجيب محفوظ وإدريس والحكيم وطه حسين وأحمد شوقى وأم كلثوم وسيد درويش وغيرهم، ولكننا تركناهم، فوقعنا فريسة لأشكال فرضت علينا التخلف والتطرف والإرهاب. ويبدو أن ذلك تم بفعل فاعل، فكتب علينا أن ننسى يوسف إدريس، ونتذكره فى المناسبات وحدها، لكى تخلو الساحة لكل المتخلفين الذين يزرعون فينا الخوف، فيخرج علينا كل جاهل وكل صانع للتطرف وكل متحذلق لكى يدفعنا إلى مزيد من التخلف.
تذكرت يوسف إدريس، ليس لأنه أمير القصة القصيرة التي امتلك ناصيتها، وقدمها للفكر والأدب العربي، بل لأنه اقترب من شخصيات الريف التى جاء من بينها، فجاءت كتاباته العميقة لتسلط الضوء على مشكلات المزارعين والفلاحين (منتجى الغذاء واللحوم)، فعمق شخصياتهم، وحبب فيهم أهل المدن وجعلهم يتقبلونهم كما هم، لكى تستقيم الحياة فى بر مصر بين أهل المدن وأهل الريف. أتذكر يوسف إدريس فى شهر أغسطس، ويجب أن يكون شهره، نكتب فيه عنه، ونصور فيه الأفلام الخاصة به، ونقدمها للكبار والصغار، ذلك الشهر الذى شهد ميلاده الأدبي، فقد ولد نجما فى أغسطس 1954 بصدور أرخص ليال ومات فى أغسطس 1991 فى الستينيات من عمره، وقد اكتمل بناؤه، وأصبح يطاول أدباء العالم، ويرى أدباء العربية أنه تفوق فى كتابة القصة القصيرة على تشيكوف الروسي، ووصل بها إلى مكانة عالمية.
لماذا نحن مقصرون مغيبون عن هؤلاء النجوم الحية التى لا تموت؟ فهى الوحيدة القادرة بإحيائها أن تهزم الإرهابيين والحمقى والطفوليين، ولا تجعلهم يتطاولون علينا بأفكارهم الضحلة، ونحن نراهم يوميا على كل المحطات التليفزيونية، وعلى صفحات الصحف..
أتذكر إدريس، وقد صدرت فى القاهرة رواية جديدة تغزل على روايته القديمة”البيضاء” فى محاولة من الكاتب الدكتور إيمان يحيى لسبر أغوار حياة إدريس، وجاءت الرواية الجديدة تحت عنوان” الزوجة المكسيكية»، وأرى فى الكتابة عن يوسف إدريس وعن أدبه وتقديمه بأشكال جديدة فنية وسينمائية عملاً يستحق الإشادة والتقدير، سواء أكان الكاتب الدكتور إيمان يحيى أم غيره، وقد تقصى لسنوات فى فكر وحياة إدريس، الشخصية الغنية الموهوبة التى لا يجود بها الزمان كثيرا، وياحبذا لو وجدنا كثيرين يسيرون على نفس المنهج ويقدمون ويستلهمون مما كتب ومن حياته، ويقدمون لنا أفلاما وكتباً ووثائقيات، تعيد بعث الفكر والإنتاج. مثل هؤلاء لو ظهروا فى مجتمعات حية متطورة كالتى نعرفها تكون الكتابة عنهم يومية، ويقدمون لهم أفلاما، ويجعلونهم حياة معاصرة لا تخفت أبداً، وينحتون لهم التماثيل فى مدارسهم وجامعاتهم وشوارعهم، فهى أمم وشعوب حية، تعرف ملاذها وتحافظ على تقدمها، فتحيى من يستحق الحياة، وتجعله معاشا ومستمرا لكى تتقدم حياتهم.
أتذكر يوسف، وكنت معه حتى اليوم الأخير من حياته، أنه عاش كالطفل الكبير، كله شغف وحب لما يقول، ولما يكتب، يعامل الصغير كالكبير. إن 17عاما من الرحيل لم تنسنى رحلة معه، لم يتركنا فيها دقيقة إلا لكى يحكى لنا ،ويبث أفكاره اللامعة فينا. عاش أديباً ومسرحياً وفيلسوفاً، ولم ينس مهنة الطبيب يوماً، فهو طبيب نفسى عالج أمة بأكملها، وما كتاباته إلا روشتات للأحياء.
عودوا إلى كتاباته بكثير من الحب والفهم والإدراك لكى تتخلصوا وتستخلصوا منها ما قال حول فقر الفكر وفكر الفقر، ولكى تعرفوا وتعيشوا فى إسلام حى بلا ضفاف، لكى تبنوا مدناً حية نعيش فيها أحياء، فهو صاحب مدينة الملائكة،عودوا إليه لتعرفوا ما حدث فى الربيع العربى وقد كتبه فى الايدز العربى .. عودوا إلى مسرح إدريس، فهو الذى أعاد إليه الاعتبار، وجعلنا نحترم لهجتنا العامية، ولا نخجل أمام لغة اللهجة القاهرية، وجعلنا نملك لغتنا العربية، فلا تسجننا فى القوالب حتى تتوه الفكرة، ويغيب المعنى. لكاتبا العظيم 800 قصة لم تقدم منها السينما إلا 12 فيلما، كلها علامات لهذا الفن، لماذا لا تنقذوا السينما الوطنية بها، فيتجدد هذا الفن المصرى العريق؟ إن فكر إدريس ثورة كاملة فى بناء الإنسان الذى نسعى لتكوينه الآن، وإلى العالم الذي نسعى إليه وإلى الحرية المجتمعية التى عبر عنها بلا خوف، ونحن نقدره الآن، لأنه الطبيب الذى أمسك بالقلم، وتحمل مسئولياته، فلم يرض أن يتنحى جانبا وبيته يحترق، فهب واقفاً لإطفاء ذلك الحريق الذى شب فى جدران المجتمع، هو الكاتب الذى رأى عالما لا يتغير، وإنسانا يزداد بالتغيير سوءا، فلم يرض لبلاده أو فنه أو كتاباته بوارا، فأمسك بالقلم ليشحذ همم الناس، وكان له ما أراد، ٍفعاش فى الوجدان.
أعتقد أنه سيعيش طويلا، وقد يأتى بعدنا جيل أكثر قدرة وحيوية وروحا، فيعيد بعث هذه الكلمات، وبناء هذه الروح، فيحدث التغيير، ونرى الإنسان الذى أراد، والمجتمع الذى بحث عنه، وقد نجده يوماً.
