
عندما أتجول فى شوارع القاهرة لا أنسى الأوبرا المصرية العريقة التى احترقت منذ 47 عاما، فحتى مرور الزمن لا يستطيع أن يغيبها عن أذهان القاهريين، ولا عن خيال كل المصريين. ففى وسط مدينة القاهرة العظيمة الخديوية كانت لنا أوبرا، هى الأولى فى قارتنا الإفريقية العتيدة، بل هى الأولى فى الشرق كله، كانت علما فريدا، أوسطية العقد بين الشرق والغرب.
ولعلنا لا ننسى أن نحتفل فى العام القادم بهذه الأوبرا الفريدة بمناسبة مرور 150 عاما على إنشائها، حيث أنشئت فى مثل هذه الأيام من عام 1869، إنه تاريخ عريض من الموسيقى والغناء والفن الراقي. فقد كانت مخزونا فنيا ثريا، ظل محروسا للمصريين على مختلف أجيالهم المتعاقبة، ولا يحق للجيل الحالى الذى ورث هذه الحضارة، بكل غناها، أن يهدره أو يغيبه، لأن الأجيال القادمة من أبنائنا وأحفادنا ستحاسبنا، ولن ترحمنا، فقد قصرنا فى إعادة بنائها، وفى بعثها من جديد بعد الحريق المخيف، وفى نفس مكانها الخالد.
ظلت هذه الأوبرا فى مكانها أكثر من قرن من الزمان واجهة مشرفة لمصر، حتى احترقت فى عام 1971 أمام أعين المصريين، راحت النار تأكلها لأكثر من 6 ساعات كاملة حتى انهارت بالكامل، ولم تحترق الأوبرا وحدها، بل أكلت النار تاريخا لا يعوض، من ملابس، وإكسسوارات العروض على مسرحها، وكثير من التحف النادرة، ومن تاريخ هذا الفن فى بلادنا، فهى المسرح العظيم الذى حرص المصريون- من كبيرهم (الخديوى إسماعيل)، فى ذلك الوقت، إلى الفنانين والعاملين- على أن تكون معبرة عما يجيش فى قلوب الشعب والوطن، وأن تكون جزءا من هذا العالم، مؤثرا ومتأثرا، فاستمرت بتراثها المعمارى العالمى المميز، وبفنها الراقى والعالمى منذ اليوم الأول، بعد أن عزفت جزءا من صفحات التاريخ المصرى القديم، فظهر للنور عرض الأوبرا الأسطورى عايدة، وهى تقول إن مصر بلد مختلف فى الشرق والغرب، يعبر عن الشرقيين، وعن كل قيمهم وأرواحهم، إنه بلد شرقي، لكن مزاجه عالمى النزعة، وروحه وثابة للسلام والرقى.
وشخصيا مازلت أعتقد أن من أحرق الأوبرا هو نفسه من أحرق القاهرة فى الأربعينيات، وهو نفسه من أحرق القاهرة فى الألفية الجديدة، عندما أشعل الفوضى، ودفع التيارات اليمينية والسلفية إلى حكم البلاد، وستكون جائزة كبرى- ونحن نحاول الآن إعادة إحياء القاهرة بمشروعات ضخمة، لعل أهمها بعث القاهرة القديمة، وتطوير الأحياء وإزالة العشوائيات- أن نفكر فى عودة الأوبرا إلى مكانها القديم بكل تراثها وتاريخها العريق.
فلم تستطع الأوبرا البديلة التى أنشئت فوق سوق القاهرة القديمة، وظهرت للوجود فى عام 1988 بعد عقدين على حريق الأوبرا القديمة، أن تعوض القاهريين عن مسرحهم المحترق، أو أوبرا مصر العريقة، وكل الأفكار المطروحة لإنشاء أوبرا فى كل مكان لن تعوضنا عن (الدار القديمة). فالأوبرا القديمة معلم لا يحترق، ويجب ألا يختفي، ومن أراد أن يزيلها أو يحرقها فإنه أراد أن يقول لنا إننا لسنا جزءا من هذا العالم، بل إننا ملكية للعقول الداعشية والمتطرفة والإخوانية، وإعادة الأوبرا إلى مكانها سيكون ردا من كل أجيالنا القديمة والحديثة بأننا قادرون.
ولا أنسى أن أقول إن العاصمة الإدارية الجديدة هى أقوى طموح للقاهرة، فهى الخروج الكبير لعاصمتنا من النهر نحو البحر، وإن العاصمة الإدارية الجديدة، رغم أنها تحمل لنا البشرى بإنشاء دار أوبرا تتسع لـ 2500 كرسى ومسرحين وحى كامل للمتاحف، فإن كل ذلك لن يغنى القاهريين عن عودة الأوبرا التاريخية إلى مكانها، وبنفس مساحتها القديمة، كتعبير عن قدرة المصريين على تجديد حياتهم مرة أخرى.
وإذا كانت الأوبرا القديمة قد استغرق بناؤها 6 أشهر، فإن المصريين المعاصرين قادرون على إعادة بنائها فى أشهر أقل، وباكتتاب من الشعب لا يجعل الحكومة تدفع فيها مليما، أى ستبنى بالتبرعات الأهلية، لتكون علامة على بعث المصريين من جديد، وعودة عاصمتهم قوية محاطة بكل جوانب الحياة ورقيها، وفى مقدمتها، وفى قلبها الفنون، روح وقلب المصريين، وعنوان حياتهم، ورغبتهم القوية فى العمل والإنتاج والإبداع. والأوبرا القديمة هى قلب من قلوب القاهرة المحترقة، وإعادتها هى إعادة لهذا القلب، ولهذه الروح من جديد. فهل ندرك المعنى من وراء هذه الدعوة؟
إن معنى العودة وقوتها أكبر من أى أوبرا، إنها رسالة من الشعب بأنه قادر، فلسنا أقل من الأوروبيين الذين أعادوا كل الأوبراليات التى احترقت بعد الحرب، أولهم الإنجليز الذين أعادوا تجديد الأوبرا المبنية فى القرن التاسع عشر فى لندن إلى حالتها الأولى، وكانت قد تأثرت أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولسنا أقل من الأوبرا الايطالية أو النمساوية، وقد احترقت بعد الحروب العالمية، أو الأوبراليات التى احترقت فى ألمانيا والدنمارك، وقد أعادها الأوروبيون كما كانت، ولم يتأخروا فى الحفاظ على تراثهم.
إن كل قوى الشر فى العالم كانت دائما تترصد الفنون، وتحاول ضربها لإسقاط الأرواح والقلوب فريسة للشر بكل أشكاله، وإعادتنا لدار الأوبرا العريقة بالقاهرة ستكون رسالة من قلب الشرق الأوسط، ووسط النيران التى تحرقه، تؤكد أن الشرق كله سيكون قادرا على هزيمة كل الأشرار، وكل أعداء الفنون فى كل مكان.
