النظام العالمى مرفوع من الخدمة مؤقتا

أهرب من كلينتون ومونيكا والمسرح العالمى الذى أعدوه لإعدام رئيس أقوى دولة فى العالم ـ حتى إذا استمر رئيسا ـ إلى الضحك..
أهرب من شعور حقيقى بأن الحكام الفعليين للنظام العالمى الراهن قرروا تجميد العالم إلى القرن القادم بلا قرارات أو تغيير حقيقى، حتى إشعار آخر.. إلى الضحك.
تساءلت هل هى مصادفة أم حقيقة فعلية أن ينشغل العالم ورؤساء الدول فى الأمم المتحدة بمقابلة رئيس الولايات المتحدة وهو يُحاكم ويُسأل كالتلميذ الصغير الذى ضُبط متلبسا بفعل شائن.. هل يستطيع العالم أن يتجاوز ما حدث، ويباشر علاقاته ومفاوضاته مع الرئيس الأمريكى، متجاهلا أو متناسيا أنه يعيش أزمة حقيقية مع أسرته وشعبه، وأنه يحاكم أمام محكمة غير تقليدية، العالم كله شهودها وقضاتها فى نفس الوقت.. مصير كلينتون الذى يحاول الانتباه الآن إلى أزمة الشرق الأوسط.. انتهى.. فهو رئيس رمزى أو سابق، وكلاهما لن يتخذ قرارات ولا يمكن أن نعول على دور مستقبلى له..
حتى نائبه آل جور إذا أصبح رئيسا، فهو مؤقت.. وهكذا بكل بساطة أخرجت »مونيكا« الولايات المتحدة من معادلة السياسة الخارجية للعالم.. بما فيها الشرق الأوسط، فقد وجد الشعب الأمريكى من يحكمونه ، سواء فى البيت الأبيض أو الكونجرس، يرون أن مصالحهم الذاتية هى تجميد العالم فى اللحظة الراهنة، لأنهم لا يملكون رؤية مستقبلية للتطورات القادمة، أو صورة للعالم الجديد، لم يحددوها بعد، ولذلك فلم يترددوا فى سحب البساط والقرارات ممن فى أيديهم اتخاذها.. لينشغلوا فى الاتهامات وبمصالحهم الذاتية، يهربون من الأزمات بمشاكلهم الشخصية.. العالم بلاشك سيتجمد، فالقوى المحركة توقفت وانشغلت بفضائحها..
حتى لو تحرك كلينتون وانتقل من الصين فى آسيا إلى أوروبا وروسيا، أو اتجهت مادلين أولبرايت إلى الشرق الأوسط، أو اجتمعوا مع نيتانياهو وياسر عرفات.. العجلة توقفت.. ليست مؤامرة علينا.. فهم أصبحوا لا يملكون قرارات أو حلولا.. فقرروا تجميد الموقف والخروج من المعادلة، دون اتهامهم بالتخاذل أو الهروب، فهم ـ فقط ـ مشغولون بأزماتهم.. فماذا نحن فاعلون؟.. هل نستعد بتجميع الصفوف وتقوية المؤسسات القائمة لمرحلة قادمة؟.. أم يصيبنا الوهن والضعف، ويزيدنا الموقف الراهن ارتباكا فيكسب الآخرون بسبب ترددنا، ونزداد ضعفاً، وتنتقل فسحة الوقت علينا أو تزيدنا المرحلة الانتقالية ضعفا، حتى تتغير الصورة فى القرن القادم، لتكون أوضح، وتدور عجلة القرارات على مصالحنا، أم نتجاوز اللحظة الراهنة، ونجتمع ونقرر أين تكون مصالحنا؟ وكيف نتعامل مع نظام عالمى متفسخ، و يشهد انهيارا وتجميدا؟، ونحدد ما نريد، وشكل علاقاتنا المستقبلية؟
لاشك أن العالم الآن ـ ونحن منه ـ تشهد لحظة نادرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى وانفراد الولايات المتحدة بزعامة العالم.. ولن نقول إن انهيار أو تجميد سلطة البيت الأبيض يعنى انسحابا للدور الأمريكى كقوة عظمى، فهذا غير حقيقى، لكن ندرة اللحظة تكمن فى أن القوة العظمى جمدت ـ بإرادتها ـ قرارها، وسحبت أو جمدت سلطة رئيسها، وأعطت القرار للكونجرس، وهو غير قادر أو مؤهل لاتخاذ قرارات فى السياسة الخارجية، تغير فى المسار العالمى أو تحكم فى المنازعات الدولية.. وهذا الموقف سيؤدى إلى كوارث أو انهيارات فى النظام القائم.. قد تستفيد منها القوى العالمية الأخرى على المسرح الدولى، وتتدخل أو تتعاون فى مواجهة الكوارث والخروج من الأزمات.. والموقف الراهن لم يكشف بعد عن وجهه وماذا سيحدث؟.. لكن الصورة مرتبكة.. فما حدث جاء فجأة رغم تتابعه، وليست هناك حسابات دقيقة مع تداعياته.. ليس على مستقبل الولايات المتحدة، لكن على مستقبل العالم كله، الذى كان ومازال يتحكم فى نصيب كبير منه رئيس البيت الأبيض.. المجمد أو المستقيل، أو المؤقت.. أيهم كان.
وهو ما سيحدده الرأى العام الأمريكى ومؤسساته التى توصلت إلى القرار، ولم تتوصل إلى شكله.. فتركته للتفاعل وصراع الإرادات، لكن ما يشغلنا حاليا هو رد الفعل العالمى لما يحدث، فبالرغم من أن ما يدور فى الولايات المتحدة هو من الشأن الداخلى، لكن تأثيراته تطال الجميع.
وسوف نتساءل ماذا فعل الأمريكيون بأنفسهم وبالعالم فى لحظات حرجة؟
»اللحظة النادرة« تدعنى أتساءل هل يستطيع العالم أن يخرج من الحقبة الأمريكية ويدير شئونه بنفسه بعيدا عن وصاية القوة الأمريكية.. منتهزا فرصة التجميد الحالية.. أم أنه غير مؤهل ومازال رهينة ظل القوة الكبرى؟
رغم خطورة اللحظة وأهميتها، فالعالم كله غير مؤهل.. آسيا فى أزمة مستحكمة، واليابان والصين مترددتان، وتبحثان عن ظل القوة الكبرى، وأوروبا وحدتها غير مكتملة، وتتحمل أعباء روسيا المنهارة، وأوروبا الشرقية المستقلة حديثا، ونحن فى الشرق الأوسط مختلفون، وقوانا مشتتة، وتتحكم فى القرار قوى اليمين المتعصبة التى تبحث عن المواجهات، ولن يردعها إلا وجود نظام عالمى مستقر يوقف المقامرين.
وهكذا يبدو أن سيطرة الولايات المتحدة على العالم لن تنتهى، ورغم أزمتها الداخلية، فسوف ينتظرها الجميع، حتى تلملم شتاتها وتختار رئيسا وقيادة تستطيع أن تشارك فى وضع نظام عالمى جديد للعالم فى القرن القادم.
وهذا يعلن عن تشائمى وعودتى مرة أخرى إلى الضحك.. بالرغم من الفرصة النادرة، فلن ينتهزها أحد، لكن على الأقل، علينا تقوية أوضاعنا الداخلية، حتى نكون قادرين على التعامل مع الأوضاع الجديدة فى ظروف أفضل.

