وصيتى قبل فوات الأوان

يجب ألا تفوتنا فرصة التوقف أمام حصاد حياة العالم الجليل د. إبراهيم شحاتة وأفكاره، ورؤاه لبلاده ولمنطقتنا، فبالرغم من الحزن الذى ألمَّ بنا بسبب رحيله، إلا التوقف أمام فكره سوف يعطينا زادا للخروج من أزماتنا، بل يرسخ وجوده بيننا، ويذكرنا بأن العقل المصرى، الذى أنجب جمال حمدان ـ عالم الجغرافيا الفذ ـ الذى رصد عبقرية المكان، وهبنا د.إبراهيم شحاتة أيضا، الذى شخص الأزمات ورصد المتغيرات، وكانت وصيته لبلاده حدثا فريدا، يجب أن نضعها موضع التنفيذ، حتى يمكننا استثمار عبقرية المكان وتحويلها إلى عبقرية الإنسان المستثمر للموقع والموارد، وهى التى تولد المكانة والدور، فقد كشف أن استمرار تردى أوضاعنا الحالية والانفصام بين ماضينا وحاضرنا والتشاؤم من مستقبلنا، مبعثه غياب الرؤية الصحيحة والعلمية والعمل الدءوب وعدم الاستعانة بآراء العلماء والحكماء، الذين شخصوا أوضاعنا وأمراضنا، ولهم روشتات للعلاج اختبرها العالم، وثبت نجاحها، بل وتميزها، وهذه البرامج والرؤى الصحيحة ليست نتاج عقول أجنبية، بل هى نتاج عقل عربى فذ، ولا يعيبه أنه كان يعمل نائبا لرئيس البنك الدولى، وخبيرا دوليا لمعظم منظمات التنمية فى مجالين من أهم مجالات التقدم والتنمية، وهما الاقتصاد والقانون. والأهم بالنسبة لنا أن علمه الفذ وعبقريته وإبداعه فى مجال تخصصه كانت تحميها جميعا ثقافة عربية ودينية إسلامية قوية ورثها من والده أحد علماء الأزهر الأفذاذ.
فقد رصد إبراهيم شحاتة مستقبلنا فى سِفْره الشهير وصيتى لبلادى فى ثلاثة أجزاء ، ذلك السِفْر الذى يحتل الأهمية أمام أىة حكومة رشيدة، تريد استكمال برامج الإصلاح التى بدأت فى التسعينيات ثم تعثرت لعدم قدرتنا على استكمال الرؤى وتطوير عمليات الإصلاح، لخوف الحكومات وعدم قدرة متخذى القرار على استكمال السياسات والذين سوف يكون مصيرهم أمام محكمة التاريخ قاسيا، ولن يتسامح معهم أى وطنى، لأنهم يحرمون مصر من فرصتها التاريخية التى لاحت لها بعد طول انتظار.
حدد د. شحاتة أهمية مصر للمنطقة العربية والعالم فى النقاط التالية.
جغرافية مصر تتوسط العالم القديم، وطرق المواصلات، و قدرتها على ربط مجالات عديدة بدءا من قناة السويس، خطوط نقل البترول، خطوط الغاز، الربط الكهربائى.
تاريخ مصر، حجم مصر النسبى، مسئولية مصر فى المواجهة والسلام.
ريادة مصر فى العلوم والفنون، ريادة مصر فى الفقه والدين.
جهاز مصر الإعلامى، رغم ما يشوبه من عيوب كثيرة مازال هو الأقوى.
لكن مصر لا تستطيع أن تعتمد على العوامل السابقة وحدها، حتى تحقق أهدافها الإستراتيجية فقط، بل لابد أن تتوافر فى أوضاع مصر الداخلية العوامل التى تؤهلها لأن تلعب الدور الإقليمى والعالمى الذى يتناسب مع المميزات الخاصة التى تتمتع بها ويحول دون تهميشها فى المنطقة والعالم.
الحد من الزيادة السكانية بهدف تحقيق الثبات فى عدد السكان.
إصلاح النظام التعليمى من أساسه بتوفير التعليم الأساسى الابتدائى والإعدادى للجميع، وبالمجان، والقضاء على الأمية المتفشية بين البالغين وأن يكون التعليم الحكومى فيما يعد الأساس بالإعداد والتوعية التى تحتاجها السوق وبمستوى عال أيضا، ويقدم مجانا للمتفوقين فقط مع مساعدة الطلبة الآخرين المحتاجين عن طريق المنح والقروض الدراسية.
الاستقرار السياسى، ليس عن طريق تجاهل التوترات تحت السطح، وإنما باتباع السياسات التى تحقق الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية وتحارب الفساد، وبتقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين خاصة الفقراء.
الاقتصاد القومى عن طريق الإصلاح الاقتصادى والقانونى الذى يحدد دور الدولة بسياسات سليمة ويحد من تدخلها فى الأنشطة الاقتصادية دون مبرر واضح، ويسمح بانطلاق القطاع الخاص تحقيقا للانتفاع بأكبر قدر من الزيادة الهائلة فى الاستثمار الدولى والتجارة الدولية والاندماج فى الاقتصاد العالمى على أسس متكافئة.
الجهاز الحكومى القادر
ورصد الدكتور شحاتة وبعقل واع قدرة مصر على فرض الأمان والتنمية فى مجالات عديدة، من حكم القانون إلى السلام الاجتماعى، إلى حقوق مصر فى مياه نهر النيل، إلى المحافظة على الأراضى المصرية ضد العوامل الطبيعية والبيئة، إلى محاربة كل صور الجريمة، خاصة الجريمة المنظمة والإرهاب والبلطجة والممارسات المافياوية، إلى رفع المستوى الثقافى للفرد العادى.
ولعل أستاذ القانون والاقتصاد، لم ينس فى برنامج المتكامل الذى سماه دعوة للإحياء والتجديد أهمية التوفيق بين الماضى والمستقبل دون تغليب الحداثة فى التفكير والتشريع والممارسات. على اعتبارات الماضى، راصدا الاتجاه نحو تمجيد الماضى والحط من الحاضر، ومن تقدس أقوال الأولين وأفعالهم وتغليب آراء السلفية على الآراء الحديثة مع إحاطة الماضى بسياح من المثالية مع إثارة الرموز والشعارات الدينية التى تجلب التعصب، ومحذرا من تحكم الطبقة المتوسطة ذات الأصول الريفية، ومن التفاوت الواضح بين القيم المعلنة والسلوكيات الفعلية من التوسع فى الخطاب الدينى فى التعليم والإعلام دون اعتبار مسبق لما يترتب على ذلك، من حيث مجالات العمل وتأثيرها العام فى تفكير المجتمع.
ولعل من أهم الاعتبارات التى ركز عليها برنامج د. إبراهيم شحاتة هو محاربة الفساد.
ولا يتحقق ذلك بدون الإصلاحات القانونية والقضائية التى هى جزء لا يتجزأ من الإصلاح الاقتصادى اللازم لزيادة الاستثمارات، وتبعا ذلك لزيادة معدلات النمو، معتبرا أن تحقيق المنافسة فى المعاملات ورفع القيود عن الاستيراد والتصدير والاستثمار والتجارة وتخفيض الرسوم، وتحويل ملكية المشروعات العامة إلى القطاع الخاص، وتخفيض الإنفاق الحكومى والإصلاح المالى، كلها عوامل لمحاربة الفساد، وكذلك اختيار القادة الإداريين على أساس الكفاءة وليس الأقدمية، وإرساء التقاليد المهنية فى جهاز الخدمة المدنية.
ولعل أهم ما تناوله كتاب وصيتى لبلادى المطالبة بتغيير الدستور المصرى لكى يتلاءم مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والمطالبة بتفسير مبدأ الشريعة الإسلامية، المصدر الرئيسى للتشريع بأنها تعنى أنه المصدر الذى يغلب اللجوء إليه وليس الوحيد، والمطالبة بتخفيض عدد أعضاء مجلس الشعب إلى 300 عضو للسماح بإجراء مناقشات موضوعية ومتعمقة وعدم جواز الجمع بين عضوية البرلمان والوظائف الحكومية، وأن يكون لمجلس الشورى دور تشريعى، وأن يكون اختيار رئيس الجمهورية عن طريق الشعب أو البرلمان على أن تحدد فترة الرئاسة لإعطاء فرصة للتداول، وأن مبادرة تغيير الدستور أصبحت ملحة، وبأنها دعامة أساسية لاستقرار النظام السياسى فى مصر.
تحية لروح الأستاذ الدكتور إبراهيم شحاتة، واحتراما لفكره وعقله، أتمنى أن نضع دراساته المتعمقة، واجتهاداته العلمية التى كانت نتاج خبرة عميقة فى الاقتصاد والقانون الذى قدمه فى شكل وصيتى لبلادى التى أصبحت واجبة التنفيذ

