مقالات الأهرام العربى

ومازال الغياب موجعا

عام بتمامه مر علي غياب الحريري، ولكن لاتزال قلوبنا تدمي لرحيله، ولاتزال الأسئلة الملحة حول أسباب رحيله، بتلك الصورة المدوية فهي توجعنا، كلما أمعنا التفكير في أسبابها، أو أجهدنا عقولنا في تحليل آثارها الكارثية، وما تخبئه لنا من مستقبل غامض قد يحيط بالمنطقة.

بعد مرور عام مازلنا نتساءل تري لماذا قتل رجل بمثل حجم الحريري؟

….ولماذا قتل هذا الحالم بغد أفضل لتوءد معه أحلامه، ونعيش فصلا جديدا من فصول المتاهة العربية؟

…لاتزال الأسئلة أكبر من احتمالنا ولازلنا حتي اليوم والغد سنظل في محاولة غير مجدية لطرح مشاعر الغضب التي تنتابنا كلما فكرنا في الصورة المفزعة التي حولته إلي رجل متفحم، ونحاول أن ننسي أنه دائما ما كان مصير.

العاشقين غامضا، فربما كان كل ذنب الحريري أنه عشق بكل جنون، عشق الحب وعشق الوطن، وعشق السلام، والبناء، فكأنه لا بد أن تكون نهايته موجعة.

هذا الرجل الذي خرج من أرض لبنان التي تعد نموذجا متفردا في التمازج الطائفي والديني والاجتماعي، ليمثل شجرة وارفة من العطاء الذي لم يعرف الحدود، كان قد آمن بأن المستقبل الوحيد الذي يمكن لوطن مثل لبنان الجريح الاتكاء عليه، هو العلم، فكان أن تبني أكثر من 53ألف شاب لبناني ليؤمن لهم الحصول علي شهادات الدكتوراه والاختصاص لأن ميليشيا العلم في عرفه هي السبيل الوحيد لتحقيق حلم لبنان عالي الهامة، مرفوع الرأس، ليسير نحو إعادة الإعمار السياسي والثقافي والعمراني.

لا يمكن لأحد أن يشكك في مدي عشق هذا الرجل لكل حبة رمل علي أرض وطنه، ولهذا كان من الطبيعي أن يصبح الرجل رمزا بحجم تاريخ لبنان كله، وكان من المتوقع أن يزلزل استشهاده قلوب العالم بقدر ما زلزل قلوب أبناء وطنه، وكان من المنتظر أن تكون دماؤه هي المداد الذي يسطر منه لبنان اليوم سطور تاريخه، وأن يدون إلي الأبد قصصا في الحب والحرية والسلام .

كان استشهاد الحريري إيذانا متجددا بضرورة توحد جميع الطوائف في لبنان، وضرورة الوصول إلي إجماع وطني يطالب بصوت واحد بألا يهدر دم الشهيد بلا تحقيق وبلا مساءلة، ولابد أن هذا الإجماع كان وراء توقف العالم عن التعامي عن الجرائم السياسية، وفتح ملف للتحقيق الدولي في الملابسات والأيدي الخفية التي اغتالت الشيخ والزعيم والأب الذي أجمع الكل علي حبه، مهما اختلفت الطوائف أو تباينت الآراء لأنه ببساطة أصبح يمثل عبر سنوات كفاحه أحد أكثر رموزها حميمية والتصاقا بجذور شجرة الأرز اللبنانية العتيقة.

نعم اغتيل الرجل الحلم غدرا، ولكن قصته لاتزال تروي داخل كل بيت لبناني، قصة تروي عن ابن مزارع بسيط خرج من صيدا ليبحث عن غد مشرق فواجه الفقر الذي حرمه من استكمال تعليمه الجامعي، وواجه الغربة بحثا عن فرصة لتحقيق حياة أفضل، وفي الغربة هناك في السعودية حيث عمل مدرسا ثم محاسبا، حقق الشاب الثلاثيني أكثر بكثير مما كان يطمح إليه، لقد أصبح واحدا من بين أكثر رجال العالم ثراء، ولكن كما في الحكايات التي تروي للصغار لم يتمكن هذا الفارس النبيل من الهناء بثروته، دون أن يشرك فيها كل فقير من أبناء وطنه، فكان حجم إعماله الخيرية أمرا يستعصي علي فهم بعض أغني الأثرياء في العالم، وكانت أياديه البيضاء تغدق الخير علي شباب وطنه وعلي أرض وطنه، فأعاد له ازدهاره السابق قبل الحرب الأهلية، ومعه حلم بأن يصبح سنغافورة الشرق الأوسط، وكما تمكن الحريري من بناء إمبراطوريته الاقتصادية علي طريقة بناء الأهرامات حجرا حجرا تمكن أيضا من بناء مدخله إلي العمل السياسي، فلم تعرف الحياة السياسية في لبنان رجلا بحجم عناده ولا صبره، ولا حتي دأبه الذي لم يعرف لحظة استكانة واحده لقد أصر الحريري علي أنه لن يقبل أبدا بالهزيمة، وقد جاء وصول الحريري إلي السلطة في عام 1992 متزامنا مع العديد من مشاريع السلم في المنطقة، بدءا من مؤتمر مدريد إلي المفاوضات الثنائية من أجل أن يلعب لبنان دورا محوريا في مشروع الشرق الأوسط الكبير، ثم لعب دورا لا يمكن إغفاله من أجل إبرام اتفاق الطائف الذي يظل واحدا من أبرز مهندسيه.

نعم سيظل الحريري علامة فارقة في تاريخ لبنان، وستمر سنوات طويلة قبل أن يأتي شخص بمثل حجمه ليملأ الفراغ الذي تركه في القلوب قبل أي شيء آخر، وسيظل غيابه جرحا يدمي قلوبنا وتساؤلات لن نعرف لها إجابات قريبة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى