لماذا احترقت مدينة العطر والنور؟

ما يحدث الآن في ضواحي باريس لهو أمر يدعو إلي الحيرة و القلق. فكيف تحولت مدينة النور، ومهد العطور إلي بغداد ثانية؟ وكيف انفجر العنف في أرجائها دون سابق إنذار؟
لقد جاءت موجة الغضب العارمة التي شنها الفرنسيون من أصول عربية؟ إفريقية ـ مغاربية لتشعل ضفاف نهر السين الهادئة، وتطرح عددا من الأسئلة والمخاوف، حول ما سوف تؤول إليه الأمور خلال الأيام المقبلة، مع فشل واضح من قبل الحكومة الفرنسية في كبح جماح الغضب المستعر، نتيجة للفقر، والبطالة، وفقدان الأمل في غد واعد علي أرض كانت هي الملجأ الأخير لمن فقدوا دفء الأحلام بالغد في بلادهم، و من كافحوا علي مدار الثلاثين عاما الأخيرة للحصول علي فرصة صغيرة لتحقيق تلك الأحلام في المدينة المنيرة.
لقد اعترف وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي وصف هؤلاء الغاضبين بـ الأوباش بأن أسباب تلك الموجة الملتهبة تعود إلي ثلاثين عاما مضت، تم خلالها التعامل مع هؤلاء المهاجرين الباحثين عن الحرية والأمل، علي أنهم مواطنون من الدرجة العاشرة وخلال تلك الأعوام تم تجاهل أحلامهم فتكدسوا بلا عمل في عشش فرنسية قذرة في ديجونو»بوش دي رون« و»سان دينييه وكانت النتيجة كما رأينا فهي ولكن الحكومة الفرنسيةلم تكن تتوقعه وكانت قد تصورت أنها نجحت في تنفيذ عملية الاندماج بين الوافدين الجدد، الذين منحتهم الجنسية الفرنسية، وبين الفرنسيين من الدرجة الأولي.
ولكنها علي ما يبدو تجاهلت، أو ربما نسيت، أنها فتحت الباب أمام آلاف المهاجرين، ولم تتمكن من استيعاب مشاكلهم، و دمجهم بشكل فعلي داخل المجتمع الفرنسي، أو التواصل بشكل إيجابي مع ممثليهم داخل أحياء المهاجرين في باريس .
ومن الغريب أن ساركوزي المتحدر أصلا من أسرة مجرية مهاجرة، و الذي وصف هؤلاء المهاجرين بأنهم “حثالة الأرض” هو من أشد المعارضين لمحاولات تدارك فرنسا لفشلها في إدماج الأقليات العرقية في بوتقة المجتمع الفرنسي.
ويري العديد من المراقبين أن توصيف ساركوزي للغاضبين في المناطق الفقيرة بـ»الأوباش« قبل أيام من بدء الشغب أسهم في زيادة التوتر عقب مقتل مراهقين في أحد الأحياء المحرومة في باريس، حيث قتل »بونا تراوري« البالغ من العمر 15 عاما، »وزيدبينه« 17 عاما صعقا بالكهرباء بطريق الخطأ في محطة كهرباء فرعية في كليشي سو بوا، بالقرب من باريس بعد ما قيل عن هروبهما من الشرطة في حادث لا تزال التحقيقات جارية فيه.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في نظري، ليس في الغموض الذي يحيط بالحلول المطروحة من قبل الحكومة الفرنسية فحسب، و لكن في الحملة التي شنتها بعض الصحف الغربية، وربطت فيها أعمال العنف بالجالية المسلمة وحدها في فرنسا.
فالواقع أن معظم هؤلاء الغاضبين ليسوا مسلمين، وغالبيتهم لاينتمون إلي جماعات الإرهاب وليسوا متطرفين كما وصفوا في وسائل الإعلام، و لكنهم مجرد مهاجرين ، وعدوا بالعمل أو عملوا بالفعل ثم واجهوا قبح البطالة والفقر، فعمتهم الفوضي، ودفعتهم نحو الغضب ثم العنف الذي دفعهم إلي إحراق أكثر من ثلاثة آلاف سيارة إلي الآن والبقية تأتي، ما لم تتخذ الحكومة الفرنسية التدابير المناسبة.
وهؤلاء الشباب معظمهم من أبناء المهاجرين الذين ولدوا في فرنسا، و لم يشاهدوا من قبل بلادهم الأصلية، أي أنهم في الواقع فرنسيون عانوا مرارة التفرقة و البطالة والفقر والجوع، فعبروا عن احتجاجهم في صورة ما أسمته الصحف الغربية بصرخة المحرومين.
والواقع أن الحكومة الفرنسية تحظر القيام بإحصاءات رسمية علي أساس العرق أو الدين، ونتيجة لذلك فإنه لا أحد يعرف علي وجه التحديد كم عدد المسلمين الذين يعيشون في فرنسا – وربما كانوا خمسة ملايين مسلم علي الأقل ـ وكما يقول الخبير في شئون الإسلام أوليفييه روي فإن منفذي التفجيرات لا ينبغي أن ينظر إليهم علي أنهم طليعة المسلمين، و هو يشير إلي أن المتمردين سواء كانوا مسلمين أم غير ذلك في كل مكان، و يتمردون ضد الغرب كما يتمردون ضد مجتمعاتهم نفسها.
ولهذا أتمني ألا تتفاقم الأمور، وأن تنجح الدولة الفرنسية بلد الحضارة والرقي في أن تجد حلا سريعا يحفظ ماء وجه كل الأطراف، ويكون درسا وعبرة يستفيد منهما الجميع ،ويدركون أن الأمور مهما تفاقمت لا يمكن أن تحل بالغوغاء والقتل والإجرام، فالتعبير عن الغضب ممكن جدا بعيدا عن العنف .

