شارون … رجل السلم

يظل آرئيل شارون من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل، علي الساحة الدولية، سواء داخل إسرائيل أم خارجها فهو في نظر العديد من أبناء قومه، بطل قومي، أطلقوا عليه تحببا لقب “البلدوزر “تحيه له علي نجاحه المستمر، في قمع الفلسطينيين، في حين نظر إليه العرب حتي وقت قريب، كمجرم حرب ،وعثرة في طريق السلام، وأطلقوا عليه لقب جزار، قبية وصبرا وشاتيلا وجنين، وهو الذي ارتكب الكثير من المجازر المروعة، في حق الشعب الفلسطيني، ناهيك عن دوره العسكري في الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 واقتحام بيروت، العاصمة اللبنانية.
ولكنه رغم جميع مجازره، وتاريخه المظلم ضد العرب، يظل شئنا أم أبيناالزعيم الإسرائيلي الوحيد الذي انسحب من أرض فلسطينية ومع رحيله الذي بات وشيكا حسب ما يري أطباؤه فإن علينا الاعتراف بأن الجميع علي الجانبين، سيدخل مرحلة ملغزة ومقلقة، ستلف بغموضها مستقبل المنطقة بأكملها، فحتي موعد الانتخابات القادمة في إسرائيل، مارس المقبل لن يستطيع احد التكهن بهوية رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد، مع ما أجمع عليه معظم المحللين الإسرائيليين، من أن المنظومة الحزبية في إسرائيل، ستشهد تغييرا من النقيض، إلي النقيض فهو وفق العديد من المعلقين، كان الوحيد القادر علي أن يحمل علي ظهره خطوات دراماتيكية بعيدة المدي، ليست خاضعة لإجماع قومي دائما، وقد كان هذا واضحا عندما أعلن عن عملية الانسحاب من غزة وفك المستوطنات بها، دون أن يكترث كثيرا بالحجم الهائل من الانتقادات اليمينية المتطرفة التي انهالت عليه وعلي خطته .
بلا شك أن رحيل شارون الآن، سيكون نقطة فاصلة في مصير العديد من الشخصيات الرئيسية علي المشهد الفلسطيني الإسرائيلي، بدءا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وانتهاء بنتانياهو، الذي قرر الرجوع إلي الحياة السياسية من جديد، تمهيدا لإجراء انتخابات جديدة، واعتبر قراره حجر عثرة ضخما يوضع أمام شارون، مما أجبره علي الانسحاب من الليكود وتأسيس حزبه الجديد كديما، ولا ننسي أنه إذا رحل مؤسس “كديما” أو حزب الرجل الواحد كما يطلق عليه، فليس من المتوقع أن يفوز الحزب خلال المعركة الانتخابية القادمة، ويبقي الصراع ما بين حزب الليكود بزعامة نيتانياهو، وحزب العمل بقيادة عمير بيرتس، مما سيشكل عملية خلط للأوراق، وتغيرا جذريا في الخريطة الحزبية في إسرائيل، ستنعكس حتما علي جميع الأوضاع في المنطقة خاصة العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، حيث من المؤكد أنه بغيابه سيخلق فراغا سياسيا كبيرا، ستضيع خلاله ملامح السلام المنشود، وترقب الدولة الفلسطينية لاستكماله الجزء الخاص بالانسحاب من الضفة الغربية، في ظل مشروعه القائم علي الانسحاب الأحادي، الذي سيعني إخلاء أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وتفكيك المستوطنات مما كان سيعد سابقة من قبل حكومة إسرائيل، تمكن الفلسطينيين من البناءالمستقبلي واضح المعالم إلي حد كبير .
بلا شك فإن شارون، قد استفاد أقصي استفادة ممكنة، من التفاف الشعب الإسرائيلي حوله، بشكل لم يحدث منذ رحيل رئيس الوزراء الأول بن غوريون، وأنه برغم جميع مساوئه تمكن من إضعاف اليمين المتطرف، وإحداث انقلاب أيديولوجي في حزب الليكود، ليخرج بحزبه الجديد الذي كان سيمثل اتجاهاوسطيا قد يحمل في طياته حلولا للمشاكل المتجذرة لم تشهدهاالمنطقة من قبل، منها إمكانية إخلاء المستوطنات من قطاع غزة وقد تكون تحمل بين طياتها أمالا للشعب الفلسطيني .
ربما كان من ضمن الآمال الفلسطينية التي علقت بشارون، خلال الآونة الأخيرة، وعود بانسحابات إضافية من الضفة الغربية، واحتمالات تقديمه تنازلات في القدس، مما كان يعني اتخاذ خطوات سباقة، يمكن أن يبني عليها الفلسطينيون مستقبلهم، في الحلم بإقامة دولة فلسطينية مستقلة علي كامل الأرض المحتلة منذ عام 1967.
ولكن مع غياب شارون بشخصيته الكاريزمية القيادية، ستدخل كل تلك الآمال والوعود في متاهة جديدة لا نعرف مداها وما إذا كان سيأتي زعيم آخر، قادر علي تبني المشروع الذي بدأه شارون وهو المشروع الوحيد القابل حاليا للتنفيذ من قبل إسرائيل أم لا؟
وسط كل هذه التكنهات والمخاوف، يحق لنا أن نقدم تحية للمشاعر الإنسانية النبيلة التي أظهرتها القيادة السياسة الفلسطينية، فقد تسامت فوق آلامها والتاريخ الأسود لجزار صابرا وشاتيلا وجينين وبادرت بالاطمئنان علي حالته الصحية وتمني الشفاء له.
و إن كنت ولحظة كتابة هذه الكلمات لا أعرف مصير شارون حيث لم يحدث الإعلان رسميا عن حقيقة حالته الصحية، ولكنني في جميع الأحوال أجد من غير الأخلاقي أن يبدي أحد الشماتة في أي مريض، ولابد أننا علي الرغم من كل مواقفنا ومشاعرنا، تجاه الشارون، لا يمكننا أن ننكر انه بات في الآونة الأخيرة، رجل السلم والسلام، وأنه بقدر ما جرح القلب الفلسطيني، بقدر ما تمكن من تقديم قدر من المداواة له.

