سبيلبيرج ضد بوش

من توافرت له فرصة مشاهدة فيلم ستيفن سبيلبيرج الجديد ميونخ فسوف يدرك أن مبدع فيلم أي. تي ، و الحديقة الجوراسية وغيرها من الأفلام التي أصبحت علامة في تاريخ السينما قد قرر أن يركز عدسته السينمائية في النهاية علي أمور سياسية معقدة ويضعها في سياق أخلاقي يمكننا أن نصفه إلي حد كبير بالموضوعية، ويبدو أنه واحد من تلك الموجة الجديدة من أفلام هوليود التي تحاول عرض جوانب من العلاقات العربية ـ الغربية المعاصرة والتاريخية بشيء من التوازن خروجا علي النمط السائد شديد التحيز الذي قدم من قبل لصورة العربي في أفلام هوليوود والتي تعود إلي العشرينيات .
فالفيلم الذي أثار الكثير من الجدل عند عرضه في نهاية شهر ديسمبر الماضي يبرز ما يمكننا أن نصفه بالورطة الأخلاقية والإنسانية قريبة الشبه بتلك التي تواجهها الولايات المتحدة الآن في حربها ضد الإرهاب وفي الوقت الذي يعتقد فيه الرئيس الأمريكي أن الاغتيالات المنظمة أمر حاسم لمواجهة الإرهاب، يطرح فيلم سبيلبيرج رؤية مختلفة .
دعونا نضع جانبا قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش بالسماح لوكالة الاستخبارات الأمريكية باصطياد وقتل أفراد في أي مكان في العالم، ونركز علي فيلم ستيفن سبيلبيرج الجديد الذي يطرح تساؤلات ملحة حول مدي أخلاقية وحكمة الاغتيال السياسي .
تدور قصة الفيلم حول الأحداث التي أعقبت الهجوم الذي شنه أعضاء منظمة أيلول الأسود الفلسطينية علي الفريق الرياضي الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ في عام 1972وتسببت في مقتل ثمانية من المهاجمين الفلسطينيين الأحد عشر، ومقتل جميع الرياضيين الإسرائيليين الأحد عشرعلي يد قوات الشرطة الألمانية فيما يعد أفشل عملية إنقاذ رهائن في التاريخ وتركز أحداث الفيلم بصفة خاصة حول فريق الاغتيال الإسرائيلي المؤلف من خمسة أفرادالمكلف من قبل رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير للانتقام من الفلسطينيين الذين يعتقد أنهم خططوا لعملية ميونخ
ويطرح سبيلبيرج مفهوم الإرهاب وإرهاب الدولة فإذا كان منفذو عملية ميونخ »إرهابيين« فما الفرق بينهم وبين القتلة الإسرائيليين الذين يقتلون ضحاياهم بصورة عشوائية ليكون رد الفلسطينيين المزيد من القتل وترتفع حدة عمليات الانتقام الإسرائيلية في أنحاء أوروبا وهكذا في حلقة مفرغة.
ثم نعود إلي ما بعد الهجمات الإرهابية علي مركز التجارة العالمي ومبني
البنتاجون في الحادي عشر من سبتمبر 2001 حيث أصدر الرئيس بوش أمر سريا يحدد أن قتل أعضاء القاعدة مهمة يفرضها واجب الدفاع عن النفس ولهذا فإن سياسة الاغتيالات سوف تكون أمرا واجبا بل ملزما، وهكذا سمح لوكالة الاستخبارات المركزية أن تنشئ وحدات، قتل وفي ديسمبر2005 قيل إن إحدي تلك الوحدات قتلت حمزة ربيع أحد أبرز منفذي عملياتالقاعدة مع أربعة آخرين. وطبقا لسبيلبيرج فإن الفريق الإسرائيلي كان ناجحا جدا في تصفية أهدافه، لكنه يصور كيف أن قائد تلك الوحدة وهو افنير كوفمان قد دخل في حالة من التخبط النفسي والأخلاقي وهو يستعرض ما قام به من عمليات اغتيال متواصلة قتل فيها شخصيات كان كل ذنبها أنها آمنت فقط بالقضية الفلسطينية.. ويشعر عميل الموساد بأنه ليس علي يقين من أن أهدافه كانوا مسئولين بشكل مباشر عن مجزرة ميونخ، ويصل إلي يقين بأن مهمته التي كانت بغرض زرع الخوف في قلوب القيادات الفلسطينية تسببت في الواقع في تسارع دوران عجلة الكراهية وأدت إلي المزيد من عمليات القتل بين الجانبين .
و يشعر كوفمان في النهاية بأنه في محاولة لإلحاق الهزيمة بالفلسطينيين بصفتهم إرهابيين فقد أصبح هو نفسه إرهابيا، ولهذا فإنه يقرر أن يتخلي عن المبادئ التي آمن بها من قبل وأن ينكر موقف دولته .
و في الوقت الذي يقدم فيه سبيلبيرج رؤية تكاد تكون بسيطة وشديدة الاخلاقية فإنه يوجه أيضا تحديا سافرا لسياسة واشنطن التي انزلقت في هذا المنزلق من قبل عندما استخدمت أسلوب الاغتيالات المنظمة في فيتنام وكوبا وشيلي ووصلت إلي نفس النتائج .ففي السبعينيات شهد ثلاث مديرين سابقين لوكالة الاستخبارات المركزية هم جون ماكون وريتشارد هيلمز وويليام كولبي ضد استخدام الاغتيال المنظم أمام لجنة تشرش الشهيرة التي شكلها مجلس الشيوخ والتي نشرت أول تقرير حاسم حول تورط الوكالة في مثل هذه العمليات .
و كان تقرير 1975 بعنوان “مؤامرات الاغتيالات غير القانونية ضد الزعماء الأجانب”والذي أكد أن الوكالة قد حاولت أن تنفذ مهمة اغتيال باتريك لومومبا رئيس الكونغو وفيدل كاسترو زعيم كوبا .
و عندما تم التحقيق حول مؤامرات الاغتيالات من قبل اللجنة أعلن كل من ماكون وكولبي أن عمليات الاغتيال خطأ أخلاقي لا يغتفر في حين جادل هيلمز بأن الوكالة ليست ملزمة بأن تعمل وفق معايير أخلاقية فهي بمجملها أمر غير عملي …و يبدو واضحا أن هذا النوع من التفكير هو نفسه ما يؤثر حاليا علي قرارات بوش الخاصة بملاحقة اعضاء القاعدة من خلال مجموعة من رجال وكالة الاستخبارات المتخصصين في الاغتيالات لتصبح بذلك الاغتيالات جزءا من أجندة الأمن القومي الأمريكي في تصور لأنها الأسلوب الوحيد المناسب لمنع الهجوم الإرهابي التالي.
قد يكون سبيلبيرج علي حق فإن طبيعة عمليات الاغتيال تحمل بين طياتها عنصرا من الانتقام الطائش واللاأخلاقية وهي كما يري لا تفرز سوي المزيد ممن ينتسبون إلي الجماعات الإرهابية ومع تصاعد معدلات العنف والكراهية في نفوسهم.
إن فيلم سبيلبيرج يتعامل مع جميع الشخصيات التي استهدفت للاغتيال علي يد فريق الاغتيالات التابع للموساد علي أنهم أفراد، أي بشر وليسوا إرهابيين يجب مطاردتهم وتصفيتهم بأي ثمن وإن كان الفيلم لا يمكنه أن يحل عقدة الصراع في الشرق الأوسط إلا أن المخرج حاول التركيز علي أن يعطي بعدا إنسانيا للأحداث مما دفع للنقاد لإثارة تساؤل واضح عن المغزي الذي يريد سبيلبيرج أن يقدمه للعالم في تلك المرحلة الخطيرة من الصراع الدولي، وبصفة خاصة إلي واشنطن التي أعلنت حقها المطلق في تصفية أي إنسان تري أنه يمكن ربطه بالإرهاب وبأحداث الحادي عشر من سبتمبر، إن القضية ليست ببساطة ما إذا كانت عمليات الاغتيال وسيلة فعالة للقضاء علي الإرهاب، لكن القضية ما إذا كانت عمليات الاغتيال تدعم فعلا الأجندة السياسية الأمريكية التي تروج للسلام العالمي والحرية والأمن من خلال نمو الديموقراطيات الليبرالية في جميع أنحاء العالم .

