مقالات الأهرام العربى

رحيل فنان

فنان مبدع من التربة المصرية، خميرة إبداع حقيقى، وسيرته ملهمة ليس لمهنته وحدها، إنما لإبداع المصريين ككل، فجيل بعد جيل يتوالد الفنانون والعباقرة من تربتنا الخصبة المروية بطمى النيل العذب، وجميعهم خرجوا من ريف مصر منبت كل البنائين والعمالقة، الذين قدموا لبلادهم أعمالاً خالدة، ودار حولهم ومعهم مبدعون وصناعيون وعمال مهرة فى كل الحرف والصناعات وقد كشف لنا هذا الالهام الخلاق لرحيل الفنان أحمد زكى عن عمر لم يتجاوز 56 عاماً، قدم فيها أفلاماً ومسرحيات ومسلسلات أكثر من سنوات عمره.

ولم تكن أعمالاً سهلة، ومع تعددها وتنوعها فإنها جاءت بعيداً عن السطحية واتسمت بالعمق، تحكى سيرة رجال وشخوص من عصره، فهو لم يخلد لنا الزعيمين جمال عبد الناصر فى ناصر 56أو الرئيس أنور السادات، أو عظماء الأدب والفكر أمثال طه حسين فقط، بل قدم لنا الإنسان البسيط الفلاحوالمزارع والموظف والضابط بل حتى المجرمين والدجالين، وتجار المخدرات والكيف، وقدم لنا الملوك والصعاليك وأخرجنا من سينما الرجل الأشقر أو الجميل بمقاييس الأجنبى إلى الفنان الأسمر الذى يعبر عن بيئتنا، وخرج من بين صفوفنا وجعلنا جميعا نجوما ومشاهير بعد أن جسدنا وقدمنا على الشاشات ذلك هو أحمد زكى الفنان الملهم والمعبر.

فالسينما ليست تشخيصاً بل تجسيدا للحياة، ومن خلالها تعيش عمرك كله ملخصاً، فتكتشف نفسك وتقرأ العباقرة والمبدعين فى لحظة، فتتعلم ويتغذى العقل وتنتعش الروح والنفس.

فعندما يحكى لنا أحمد زكى، عن »ناصر« نعود إلى زمن مضى فنراه مجسدا وحقيقيا ونعايشه، حيا ينبض الناس والزعيم والأحداث والأزمة والمعركة، قصة الشعب والقائد الذى صمد وتحدى وانتصر رغم الضعف، وعندما يلخص لنا »السادات« نعيش معه محنة الهزيمة، ونلتقط معه صعوبة القرار ثم العبور وخطورة المصير عندما يكون الرئيسمصمماً على النصر والخروج من النفق المظلم، ومعه سوف نعود إلى زمننا الجميل، كذلك عندما يحكى لنا فى فيلمه القادم والأخير عن الفنان الملهم عبد الحليم حافظ الذى أنعش الوجدان العربى، وعبر عن آلامنا وفرحتنا وحبنا وأيامنا وليالينا بالموسيقى والغناء الجميل فحليم ليس قصة مغنٍ عابر، ولكنه كان صانعاً للوجدان باقتدار.

لحظة الرحيل قاسية، ولكن عندما يكون الرحيل لفنان ترى نفسك فيه، فإن جزءا منك يكون قد سقط أو توقف، هنا فإن الحزن يكون كبيراً مخيفاً، وترحل بنفسك مع الراحل ولكن مع ذلك ستبقى السيرة ملهمة، فإنك تأخذ بالجزء الباقى والحى منها، الذى هو هذه الأفلام التى تتحرك عبر الشرائط وفى كل المحطات، نسهر ونسعد ونفرح ونبكى معها، ونتذكر، فنعرف أيها الراحل الكبير أنك تعيش معنا حتى النخاع وستبقى جزءا من تفكيرنا، لا تداعب عقولنا فقط بل تغذى الوجدان والنفس، فتسعدنا وتنعشنا وتجذبنا وتشدنا وتجعلنا نبكى ونفرح معك فندرك ساعتها أنك استطعت أن تنتصر على الموت والفناء بل إن حجم بقائك ومعايشتك أكبر وأعمق وأكثر وجودا، ولحظتها فإننا لم نضحك معك على الصورة الجديدة فقط التى صنعتها بشقاء الجسم والنفس، فخلقت البقاء الحقيقى الممكن للإنسان عبر الأعمال.

ساعتئذ فإن حزننا سوف يتبدد لأننا سوف ندرك البقاء والحياة، فالأشخاص الذين خلدتهم سوف يخلدونك عبرهم، بل سوف يخلدوننا عبرك وتلك ليست متتالية حسابية ولكنها معادلة الحياة لأنها ببساطة كما بشرنا الخالق ليست عبثا، ولا تفنى المادة أو الأشياء ولكنها تنتقل وتعيش بل وتتطور، وتعكس وقائع جديدة وتتجدد عبر احتكاك الناس والبشر ومرور الأزمان

والأهم أنك لست وحدك، فكلنا معك نسير وندرك أن سيرتك الملهمة، تعنى أن عبقريتك وفنك واستمراريته سيعنى أن طريقك لن يتوقف، ولكنه سوف يستمر ملهماً، لتخرج من نفس التربة إبداعاً جديداً ملهماً للعصور القادمة

فالفن هو الأصعب وصانع منتجات الفن الذى يغذى الوجدان والروح، أسهل عليه أن يصنع منتجات متعددة ومتطورة للمادة وتلك أسطورة الفنان، لأنها تحكى التصميم والإرادة والإيمان وتلك هى ثلاثية الإنتاج والإبداع فالمصريون مبدعون وخلاقون ولكن ينقصهم أن يسوَّقوا أنفسهم ومنتجاتهم للعالم الجديد والأسواق التى تنتظر إنتاجهم وأعمالهم المبدعة فبلدنا ينتج عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى ثم أحمد زكى، وهؤلاء مبدعون من طراز خاص ولا ننسى الأوزان الثقيلة أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم مئات المبدعين والموسيقيين والفنانين، أليس سهلا على هؤلاء أن يدخلوا كل مجالات الإنتاج الصعب والقاسى، منتجات الوجدان، التى هى أصعب وأقسى من منتجات الأجسام وتطويرها.

ولكن فلنثق ولنؤمن بأننا قادرون على الإنتاج المبدع والملهم والخلاق وساعتها سوف نغزو كل الأسواق

تلك مهمة الإنتاج وسيرته

وهكذا فإن سيرة أحمد زكى ملهمة ومؤثرة ليست على الأجيال التى عايشتها وعصره فقط، لكنها نقطة مؤثرة وجاذبة للأجيال الحالية والقادمة التى سوف تتعلم الإنتاج الواسع والكبير فى كل المجالات وتقدم لنا مسوقين جددا قادرين على أن يقدموا أعمال البنائين والمنتجين العظام للأسواق المنتشرة

وهؤلاء المبدعون هم الذين يصنعون الاقتصاد المتطور والمعاصر، ويقدمون السياسة ويخلقون المشاركة ويصنعون التطور

فالرحيل القاسى ولَّد لنا العبرة وكشف العبقرية، وخلد السيرة الملهمة وعبرها يجب أن نسير ونعمل لنغير الواقع والحياة، لنجعل الحياة أجمل ونطور مجتمعاتنا ونلحقها بالعالم المعاصر،فالسيرة الملهمة تكشف القدرة على الخلق والإبداع والإنتاج.

تلك قصة حقيقية من عالمنا الراهن تحكيها عبقرية وفن أحمد زكى الذى يلهم ـ ليس الفنانين فقط ـ ولكن رجال الاقتصاد والسياسة، بل صناع الحياة

شكراً أحمد زكى

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى